عاطف بشاى
الأحبة يرتحلون تباعًا.. عشرات المبدعين من جيل الستينيات.. جيل المعارك والتحديات والتحولات والانتصارات والانكسارات.. والطموحات العريضة.. والآمال المرتقبة.. والنهضة الثقافية والفنية.. لكن رحيل.. صلاح السعدنى.. الصديق الحميم.. الوهج الوثاب بعطر البهجة وعمدة الفن الخلاب والحضور المدهش والموهبة البازغة.. يبقى موحشًا وموجعًا ومريرًا.
كان قد غاب بعيدًا عن الأنظار أثر رحلة مؤلمة مع المرض فآثر وحدة إجبارية وصمتًا مبينًا وانفرادًا وتوحدًا بمعاناته دون صخب الأضواء والمهرجانات وشاشات العرض وخشبة المسرح.. بينما كان ذا ألق وهاج يملأ الدنيا من حوله نورًا وبهاء وشغبًا وسخرية وتواجدًا مؤثرًا.. متدثرًا ببلاغة الحكى وتدفق الحديث، الذى يصمت فى حضرته إنصاتًا وإعجابًا وانبهارًا الجميع من حوله.. حيث يأكل الحكواتى الوقت ويستولى على الأفئدة، فهو يصنع البهجة ويفيض بالإشراق بخفة ظله اللا متناهية وقوة تأثيره الطاغية وسرعة بديهته الحاضرة وجسارة سخريته اللاذعة وعمق إحساسه بالمفارقة، فيشكل منها عالمًا بأسره يضج بالحياة والحب والأمل والدفء والضحك.
عرفته منذ منتصف السبعينيات، وأنا مازلت أتحسس الطريق، وأبحث عن فرصة مواتية أحقق من خلالها تواجدًا بين عمالقة كُتاب السيناريو والحوار.. فهو ابن بلد أصيل.. بسيط.. متواضع.. لا تعنيه مظاهر نجومية يراها زائفة.. أو ادعاء وحذلقة وترفع لزوم شخصية الفنان المثقف.. حلو الشمائل.. لطيف المعشر.. كريم الترحاب بضيوفه، فباب منزله مفتوح على مصراعيه للجميع دون مواعيد مسبقة أو حواجز معطلة.
كان لقائى الأول معه فنيًّا من خلال مسلسل «المصيدة»، الذى كتبت قصته والسيناريو والحوار له، ولعبت فيه البطولة أمامه الفنانة المعتزلة «هناء ثروت»، واشترك فى التمثيل معه القدير الراحل «إبراهيم سعفان»، وهو مسلسل كوميدى تمثل أحداثه عشر سنوات فى حياة زوج وزوجة.. حاولت من خلاله الاعتماد على التفاصيل الصغيرة من المواقف فى تجربة جديدة فى شكل الرد الدرامى.. تعكس سنوات الحب والزواج والتطورات والتغيرات العاطفية والإنسانية التى تطرأ على هذا الحب الذى يبدأ ملتهبًا.. وينتهى إلى حالة من الرتابة والملل والأعباء.
قبل التصوير، فاجأنى السعدنى بجملة بدت غريبة، إذ قال لى: «خلى بالك أنا مش ممثل كوميدى.. ولن أكون».. استوضحته فيما يعنيه، فأدركت أنه لن يُقدم على ترديد لزمات لغوية أو حركية أو إفيهات كوميدية أو الإكليشيهات المعتادة فى طريقة التعبير التى يستخدمها المضحكون بهدف الإضحاك.. قلت له: وأنا لا أنتظر منك ذلك.. بل إنى أستاء كثيرًا من فهم الكوميديانات عندنا الخاطئ لمفهوم الكوميديا، والذى ينتهى بهم الأمر إلى أنهم لا يجسدون الشخصية الدرامية التى كتبها المؤلف بأبعادها الاجتماعية والنفسية.. بل يجسدون ذواتهم أو شخصياتهم بهذه اللزمات المتكررة فى كل أدوارهم.. والحقيقة أنه قدم دورًا ساحرًا من أجمل أدواره دون مبالغة أو تزيد فى الأداء، فأثار الضحكات من خلال طبيعة الموقف الدرامى وموضوع المسلسل، وليس عن طريق ابتزاز المتفرج بافتعال الضحك الخشن والزغزغة.
العمل الثانى الذى جمعنى بـ«صلاح السعدنى» هو الفيلم التليفزيونى الشهير «فوزيةالبرجوازية»، الذى فاز مؤخرًا ضمن مائة فيلم فى السينما الكوميدية بمجموع النقاد فى مسابقة مهرجان الإسكندرية السابق.. والفيلم مأخوذ عن قصة لـ«أحمد رجب»، وشاركت فيه صلاح السعدنى البطولة «إسعاد يونس»، وأخرجه إبراهيم الشقنقيرى، ويتناول الصراع السياسى بين أنصار اليمين وأنصار اليسار فى حارة شعبية.. والاتهامات المتبادلة بينهما بالتنابز بالألفاظ المتحذلقة، التى لا يفهمون مدلولها ومعناها الحقيقى.. فهذا يمينى رجعى أو برجوازى رأسمالى متعفن.. وذاك يسارى أيديولوجى حنجورى.. وهكذا.
نجح الفيلم نجاحًا كبيرًا، وأثار ضجة واسعة بين المثقفين أصحاب الانتماءات السياسية المختلفة بين مؤيد ومعارض.. لكنه أعجب العامة إعجابًا بالغًا، حتى إن رجل الشارع كان يردد مكررًا تلك المصطلحات المعقدة والغريبة عليه فى سخرية وتندر.. رغم تصورى المُسبق وتوقعى فشل الفيلم الذريع فى الوصول إليهم.. أما اليساريون فقد انقسموا فريقين.. فريق يرفض الفيلم رفضًا قاطعًا، وقد تفرغ الكثيرون منهم للكتابة اللاذعة ضده.. وفريق آخر تحمس له حماسًا بالغًا.. ورأوا فيه رؤية صادقة لا تخلو من طرافة لأوضاع اليسار المصرى فى ذلك الوقت.. بل إنه من دواعى السخرية حدوث تلك المفارقة من اختلاف وشقاق وانقسام بين المفكرين فى الفيلم تحقق وقتها بالفعل، لكن بين أبناء الفريق الواحد فى رد فعلهم تجاه الفيلم.. فبينما هاجم عدد كبير من النقاد والمثقفين اليساريين الفيلم، فوجئت بالمناضل الكبير المفكر السياسى، أحد مؤسسى تنظيم «حدوتوا» «أبوسيف يوسف».. يتصل بى مهنئًا ضاحكًا مؤكدًا لى أن الكثير من المتشدقين والحنجوريين من رفقاء المعتقلات كانوا يشتبكون مع بعضهم البعض.. ويتراشقون بتلك المصطلحات التى عرضها سيناريو الفيلم.. فى المقابل، فقد اندفع فى اتجاهى أديب شاب غاضب فى الشارع يسبنى سبًّا مقذعًا، وكاد يعتدى علىَّ بالضرب بحجة إهانة اليسار، لولا أن منعه بعض الأصدقاء.
حقق السعدنى بدوره فى الفيلم سطوعًا عظيمًا بفضل قدرته الفذة فى التلون الأدائى وفى خلق الإحساس المناسب للمشاهد المتواترة والانفعال المُبهر الأخاذ لتجسيد الشخصية.
رحم الله صديقى الفريد.. الممثل البارع الذى ليس لمثله نظير.
وفى المقال القادم، أعرض لثالث لقاء معه فى مسلسل «عمارة يعقوبيان».
نفلا عن المصرى اليوم