خالد منتصر
سمعنا عن تنظيمات متطرفة متعددة الأسماء والهويات على مدى تاريخنا القديم والمعاصر، ومعظمها يرتدى ثوبا دينيا طائفيا عنصرياً، لكن ما يجمع كل تلك التنظيمات هو أنها تستخدم قاموساً دينياً، ومصطلحات مهجورة، وتفسيرات انتقائية، وزعماء سيكوباتيين، لكن هناك تنظيماً مختلفاً ظهر فى الآونة الأخيرة، أطلق عليه تنظيم الأطباء الدراويش، يستخدم ما يشبه الكوكتيل أو الفخفخينا، فيقدم العلم والطب بمصطلحات دينية، ويمرر من خلاله أفكاراً متخلفة، والخطر أنه يشوه العلم والدين على السواء، ويجمع منهجين متناقضين فى بوتقة واحدة، فتكون نهاية تلك التجربة العبثية هى انفجار المعمل نفسه!.
وما أقوله ليس دعوة لهجر الدين والتخلى عن الايمان أبداً، فعلاقتك الايمانية هى علاقة رأسية خاصة مع الله، والدين يمنحك طمأنينة نفسية وليس بالضرورة مع تلك الطمأنينة لابد أن يمنحك معادلة كيميائية أو نظرية فيزيائية!، لكن ما أقوله غرضه ألا تستخدم الدين كمطية أو كمخدر جماهيري، أو العلم كسبوبة أو بيزنس ديني، كل له مجاله، وكل له منهجه، إذا أردت أن ترسم لوحة فإنك تستخدم أداتها وهى الريشة، وإذا أردت أن تعزف على الكمان فلن تستخدم الريشة ولكنك ستستخدم القوس، لذلك وعلى سبيل المثال، إذا كنت تحب الاعتكاف فى المسجد، ويمنحك هذا الراحة والسكينة، فلك مطلق الحرية، لكن أن تخرج وتقول مثلما قال طبيب شهير إنه قد عالج الصداع النصفى بالاعتكاف!!، هنا لابد أن تكون لنا وقفة، لأنك بهذا الكلام قد أصبت المنهج العلمى فى مقتل، وشوهت الدين، لأنه حتى بالمنطق الدينى التقليدى لم يقل نص مقدس لو عندك صداع نصفى اذهب واعتكف، فلماذا تتبرع حضرتك ومن تلقاء نفسك بهذه الخرافة وتنسبها إلى العلم، وتغلفها بسيلوفان طبى بحثي، وتقول بعد عدة تجارب إنك قد وجدت أن الاعتكاف يعالج الصداع.
وهنا لابد أن نسألك يا من اخترعت تلك الأكذوبة عدة أسئلة، السؤال الأول: أين أجريت حضرتك أو فضيلتك تلك التجربة؟، إذا كان ردك أجريتها فى العيادة، سأقول لك آسف سيادتك، فالعيادة ليست مكاناً لإجراء الأبحاث العلمية على الإطلاق، ولو قدمت بحثاً فى مؤتمر وقلت إنك قد جمعت تلك الداتا أو المعلومات فى العيادة ستطرد من المؤتمر شر طردة!، فالبحث العلمى يحتاج مراكز بحثية متعددة فى مناطق مختلفة، غالباً تكون فى جامعات، هذا هو ما يقوله الطب القائم على الدليل والذى تعلمنا جميعاً أنه سبب نهضة الطب الحديث، وهو منهجه المعتمد، السؤال الثاني: أنت تعلم جيداً وأنت تدعى هذا الادعاء اللا علمي، أن الصداع النصفى له عدة أسباب، منها العيون أو الجيوب الأنفية أو الصداع أو العضلات ... الخ، فهل تم التفريق والتصنيف داخل تجربة الاعتكاف تلك؟! أظن أن هذا لم يحدث، نأتى إلى السؤال الثالث: هل أتى باحث الاعتكاف بما نسميه المجموعة الضابطة فى التجارب العلمية، يعنى مجموعة لم تعتكف وتناولت البلاسيبو، قرص نشادر على سكر مثلاً، وقارن بينها وبين مجموعة المعتكفين، وقاس أثر هذا وذاك على الصداع؟!، السؤال الرابع: أين نشر هذا البحث؟، وما هو اسم المجلة العلمية المحكمة التى نشرت بحث الاعتكاف؟، وما هو المؤتمر الدولى الذى تم فى إحدى جلساته إلقاء هذا البحث؟!.
هذه هى الأسئلة التى ننتظر إجاباتها، وهذا هو التفنيد المضبوط المنضبط دون أى شخصنة، تنظيم الأطباء الدراويش خطر على العقل المصري، وعلى منظومة الصحة المصرية، لأن الطريق مملوء بالإغراءات فى ظل مزاج عام مغرم بالخرافات وعلى نفس الموجة، هذا الاغراء مثل الماء المالح، كلما شربت عطشت، تجعل من أفراد هذا التنظيم فى النهاية ومن فرط جاذبية الشو، يلقون بنصائح طبية لزوم الاستعراض وعلى مقاس الزبون المغيب، فيخرج علينا طبيب متدروش فيقول لمرضى السكر أوقفوا الانسولين! وآخر يخترع نظام ريجيم باسم (الدينى) ريجيم الطيبات ويقول لمريض كل نوتيلا وعسل وامنع أدوية السكر!! وثالث يربط خفض الكوليسترول بعدد الخطوات الى المساجد، وكأن الكوليسترول يميز طائفياً بين الأديان!! ورابع يقول إن المسلم الحقيقى المؤمن لا يصيبه الاكتئاب، ليتسبب هذا الطبيب فى أزمة أشد للمريض واحساس عميق بالذنب لا يستطيع التخلص منه لأن الخلل الكيميائى فى السيرتونين وغيره فى المخ مازال كما هو!!، المعركة مع هذا التنظيم ليست كما يشاع نتاج غيرة منهم أو حسد من تراكم ثرواتهم التى حققوها من خلال تلك التجارة الرابحة، لكنها نابعة من الخوف على ضياع جوهر المنهج العلمى القائم على الشك واحترام التغير المزمن، وأنه لا ثابت إلا التغيير، والجميع يعرف وأصبح على قناعة أن العلم هو طوق النجاة الأخير، ولا حل إلا العلم والسؤال والشغف والفضول والجرأة على اقتحام المجهول وعدم التكلس والتحنط داخل علب أفكار منتهية الصلاحية.
نقلا عن الاهرام