القمص يوحنا نصيف
    عندما ظهر السيد المسيح للتلاميذ في مساء أحد القيامة، وأعطاهم السلام، وأراهم يديه وجنبه.. يقول الإنجيل: "فرح التلاميذ إذ رأوا الرب" (يو20:20).

    فما هي أسباب هذا الفرح؟ وكيف نتمتّع نحن أيضًا معهم بهذا النوع من الفرح؟

    ربّما فرح التلاميذ لهذه الأسباب الأربعة:
أوّلاً: رأوا قوّة المسيح التي انتصرت على الموت..

    فعلى الرغم من الجراحات الخطيرة والعذابات المُميتة التي تعرّض لها.. لكنّ قوّته غلبت كلّ هذا وقام مُنتصِرًا.. وهذا شيء مُفرح جدًّا لنا أنّنا نتبع هذا الإله.

    نحن ننتمي إلى إله قوي لا يُغلَب، ويمكننا أن نصير أيضًا أقوياء فيه كما أوصانا الإنجيل "تقوَّوا في الرب، وفي شدّة قوّته.." (أف6: 10). لقد هزم السيِّد المسيح الموت عدوّنا الشرس الذي كان يبتلع الألوف كلّ يوم في جوفه بلا رحمة وبلا عودة، ولكنّه عندما حاول أن يبتلع السيِّد المسيح أيضًا داسه الربّ وكسر شوكته، وخلّص الأبرار من جوفه، وارتقى بالبشريّة المؤمنة به إلى مستوى تحدِّي الموت بعد أن نقل إليها قوّة الحياة الجديدة التي لا يغلبها الموت عن طريق جسده ودمه ووصاياه.. فصار الموت بالنسبة لنا مُجرّد انتقال، وأصبح اشتياقنا هو أن ننطلق لنكون على الدوام مع المسيح القائم، ذاك أفضل جدًّا..!

ثانيًا: رأوا مقدار حبّه الهائل..
    والذي تجلّى في جراحاته التي احتملها من أجل تتميم الخلاص.. فقد حرص السيِّد المسيح على كشف جراحاته للتلاميذ، ليس فقط لكي يؤكِّد لهم شخصيّته، ولكن أيضًا لكي يلفت نظرهم لعظيم حبِّه الذي جعله يحتمل كلّ هذه الآلام من أجلهم..

    نحن نعلم أن غالبيّة التلاميذ لم يكونوا عند الصليب ولا شاهدوا جراح الجَلْد أو المسامير أو الطعن، بل مجرّد سمعوا عنها من بعض الذين شاهدوها.. أمّا أن يشاهدوها الآن ويتلامسوا معها فهذا يُشعل القلوب بمحبّة الفادي الذي اجتاز معصرة الآلام حُبًّا فينا..!

ثالثًا: رأوا أنّه في وسطهم ولم يتركهم..
    لقد ظنّ التلاميذ عند أحداث الصليب أنّهم قد فقدوا السيِّد المسيح؛ الراعي الحلو، والصَّديق القائد، والمعلِّم الأمين، صاحب السلطان الهائل مع القلب المملوء بالحُبّ.. ولكن ها هو الآن بعد القيامة قائم في وسطهم يعطيهم السلام، ولم يستطِع الموت بكلّ جبروته أن يفصله عنهم.. كما أكّد لهم الرب أيضًا أنّه سيكون معهم كلّ الأيام وإلى انقضاء الدهر (مت28: 20)، لذلك كان فرحهم عظيمًا.. وتحقَّق الكلام الذي قاله لهم السيِّد المسيح ليلة الصليب "لا أترككم يتامى، إنِّي آتي إليكم" (يو14: 18)، "سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحدٌ فرحكم منكم" (يو16: 22).

    في الحقيقة إنّ الإنسان بدون السيد المسيح يكون مثل اليتيم؛ يفتقر للطمأنينة والعزاء والحُبّ والحماية والسَّنَد والإرشاد والقوّة.. أمّا مَن يقتني الربّ يسوع في حياته فقد امتلك الحياة كلّها، وصار غنيًّا في كلّ شيء.. ولا ننسى أنّ الذي يختار أن يتبع السيِّد ويكون تحت قدميه، فقد اختار النصيب الصالح الذي لنّ يُنزَع منه أبدًا (لو10: 43).. فلو تعلّق الإنسان بأيّ شيء في العالم وأحبّه، لابد أن يأتي يومٌ تعيس يفقد فيه الإنسان ما قد أحبّه وارتبط به في العالم.. أمّا مَن تعلّق بالمسيح واختبر عِشرته فقد أمسَكَ بالحياة الأبديّة، وتذوّق حلاوة الحُب الحقيقي المُشبِع الذي ينمو بلا انقطاع إلى ما لا نهاية..!

رابعًا: رأوا أنّ الحياة قد انتصرت على الموت، والبِرّ انتصر على الشرّ، والحقّ انتصر على الباطل..
    هذا البُعد الإيجابي للقيامة يثير في الإنسان مشاعر فرح عظيمة.. فكم يحزَن الإنسان عندما يسمع بانتصار الشرّ والكذب والتلفيق في موقف من المواقف.. وبعكس ذلك كم يفرح عندما يرى تحقيق العدالة في قضيّة من القضايا.. لذلك فإنّ قيامة المسيح قد أكّدَت أنّ الحقّ هو الذي سينتصر في النهاية.. لهذا فرح التلاميذ جدًّا بهزيمة الموت والظُّلم والكراهية، وانتصار الحقّ والعدل والحُبّ..

    السيِّد المسيح بقيامته أخرج الحقَّ إلى النُصرة تحقيقًا للنبوّة التي جاءت عنه في سِفر إشعياء وأكّدها القديس متى في إنجيله "... يُخْرِج الحقَّ إلى النُّصْرَةِ، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم" (مت12: 20-21).

    هذا الفرح الذي فاض في قلوب التلاميذ عند رؤيتهم للمسيح المُنتصر على الموت، لا يزال يسري في الكنيسة حتّى الآن.. ويفيض في كلّ قلب تَعَلَّقَ بالمسيح، وقَبِلَ أن يموت معه ويقوم معه في المعموديّة، وارتضى أن يسير معه طوال حياته في الطريق الضيِّق حاملاً الصليب، متغرِّبًا عن العالم، منتصِرًا على كلّ إغراءاته.. هنا يأتي المسيح القائم ويُظهِر نفسه لمثل هذا الشخص، ويعطيه السلام، فيفرح فرحًا عظيمًا جدًّا لا يُمكن وصفه بأيّ لغة بشريّة..!!
القمص يوحنا نصيف
عيد القيامة المجيدة 2024