طارق الشناوى
عندما يصل الفنان إلى الذروة فى الإبداع وأيضا العمر الزمنى، هل من الأجدى أن يشارك تلاميذه وأحفاده فى الصراع على الجائزة؟، وهل تتمكن لجنة التحكيم من أن تخترق ببساطة هذا الحاجز الأدبى وهى تقيّم شريطا سينمائيا وتتجاوز عن كل الاعتبارات الأدبية للمخرج ويعلو فقط صوت العدالة فى اختيار الأفضل.
ما يحدث عادة فى العديد من المهرجانات والمسابقات هو أن المخرج الكبير قامة وقيمة، وأيضا عمرا، يجنب الجميع هذا الحرج، ويشترط على إدارة المهرجان عرض الفيلم خارج التسابق، فرنسيس فورد كوبولا، اختار الحل الأصعب وهو الخضوع لقرار لجنة التحكيم، وتلك منتهى الثقة ليؤكد أنه لا يزال يعيش مرحلة الشباب الفنى، فهو لا يتعالى على حق لجنة التحكيم فى التقييم.
الرجل يعيش فى النصف الثانى من العقد التاسع (85 عاما)، ولا يزال محتفظا بقدرته على المداعبة، وضح ذلك فى المؤتمر الصحفى، ولا يزال أيضا يملك حلم السينما وحلم الشباب الفنى، شاهدنا كل ذلك واضحا وجليا على الشاشة.
إنه أحد اساطين العصر الحديث للسينما بعد جيل الرواد المؤسسين، أفلامه على ندرتها صارت علامات فارقة على طريق الإبداع السينمائى، يعيش الحلم الفنى بداخله حتى ينضج على نار هادئة، ربما عشرة أعوام قبل أن يجسده على شريط سينمائى، وهو ما حدث مع فيلمه الأخير (ميجالو بوليس) عندما وجد أن شركات هوليوود بأفكارها داخل سيستم الإنتاج المتعارف عليه، لم تبد حماسا لفكرة الفيلم، تحسبا من إخفاقه ماديا، فقرر هو أن يرصد كل أمواله التى حققها من الاتجار فى النبيذ لتحقيق مشروعه، لا أتصور أن المخرج الكبير الذى تجمع دائما أفلامه بين القيمة الفنية الإبداعية وأيضا الجماهيرية، حيث تبدو دوما بعيدة عن المتعارف عليه سوى أنه كان صادقا مع حلمه وأنه لم يفقد بعد البوصلة التى تتيح له قراءة جمهوره فى العالم كله.
فى قاعة السينما شاهدنا اختراقا مقصودا لحالة المعايشة الكاملة مع الشريط السينمائى حيث يضاء جزء من المسرح، ومن خلال بقعة الضوء هذه يجرى حوار مع بطل الفيلم، ثم يطفأ الضوء لتستمر الحكاية.
قطعا هذا المشهد الذى رأيناه مع اقتراب نهاية الفيلم، المقصود به نفسيا المتفرج لإيقاظه من حالة الاستغراق التى هى بالضبط تعبر عن قانون السينما فى العالم، منذ نشأتها، يلعب الظلام دوره فى التعاطى مع الشريط السينمائى.
طبعا السؤال الذى تردد داخل كل منا: ماذا بعد نهاية المهرجان وعرض الفيلم جماهيريا فى العالم هل سوف يتم إخراج مشهد مماثل فى كل دار عرض؟، الإجابة المنطقية هى قطعا لا، ومن المنتظر أن لدى المخرج نسخة أخرى تم فيها تقديم هذا المشهد بلقطة سينمائية تعرض على الشاشة ولن نرى أبدا بقعة ضوء وممثلا يجرى حوارا من المسرح إلى الشاشة، إنها مجرد لمحة خاصة أراد بها كوبولا إنعاش جمهوره الذى يتوقع منه المزيد خارج الصندوق.
المؤكد أن هناك عاملين يؤثران بقوة على المخرج ومن ثم الجمهور، حجم التوقع لمن شاهدنا له (الأب الروحى) (العراب) بأجزائه الثلاثة و(سفر الرؤية الآن)، و(صانع المطر) و(المحادثة) وغيرها من أفلام لم تحدث فقط ضجة وقتها بعدد ضخم من الجوائز وأرقام استثنائية وغير مسبوقة فى الشباك، ولكنها شكلت فى نجاحها الاستثنائى العالمى، جزءا من ذاكرتنا الجمعية نرسم من خلالها حالة السينما فى تطورها، صارت تسعى لتقديم مفردات جديدة فى اللغة السينمائية، وهو ما يستطيع إنجازه عدد قليل جدا ونادر على مختلف الأصعدة الفنية.
الشريط السينمائى تستطيع قراءته جيدا مع اللقطة الأخيرة لطفل لا يزال فى ساعاته الأولى يتعرف على الحياة، وكأنه يقدم لنا رسالة بأن نأخذ الحكمة من هذا الطفل لنبدأ معه الرحلة من جديد.
بعد أن تغير العالم والذى ولد من جديد فى ملامح المدينة الفاضلة (يوتوبيا) تتجسد فى الشريط العلاقة بين الخاص والعام، المخرج مع كل الخصوصية التى نراها فى تفاصيل اختياره للقطات وتوجيه أداء ممثليه يقدم فيلما ظاهريا نجده يقع تحت مسمى النمط الهوليوودى إلا أنه من خلاله يقدم بصمته الخاصة.
(نهاية العالم الآن) فيلمه الذى لا يمكن أن تمحوه الذاكرة كان يقدم لنا من التاريخ إسقاطا على الحاضر، هذه المرة هو يبدأ من اللحظة الفارقة التى يعيش فيها العالم على أطراف أصابعه وفى كل لمحة نشهد فيها العالم الظالم الذى يكيل بمكيالين والحل كما يراه كوبولا لن يأتى سوى بهدم العالم القديم وبناء عالم جديد.
لو طالعت كيف تعاملت المجلات الكبرى من خلال أرقام النقاد التى يرصدونها للأفلام داخل المسابقة وغيرها مثل (سكرين) و(فيلم فرانسيس)، سوف تلاحظ التباين الرقمى بين من يمنحه العلامة الكاملة فى عدد النجوم الأربعة ومن يكتفى بنجمة أو اثنتين، وتحليلى هو أننا نخلط دائما الواقع بالتوقع، المخرج الذى يغيب عشرة أعوام ويرصد كل أمواله لمشروع يراه هو ترنيمته الأخيرة يجعل سقف التوقع يحلق عاليا، وهناك مقارنة لا شعورية بين الماضى والرصيد الاستثنائى والواقع الذى نعيشه على الشاشة، ومؤكد فإن التوقع غالبا ما يعلو على الواقع بل ويضعه فى حرج.
قدم كوبولا فيلمه وكأنه الوصية لعالم أفضل قادم على شرط أن نهدم العالم القديم، إنها كما تنطق الشاشة لمحة لمن يريد أن يتعلم رؤية العالم والتعبير عنه بشريط يقول كل شىء بلا صخب ويترك لك أنت أيضا أن تقول!!.
سواء حقق كوبولا جائزة السبت القادم أو لم ينلها سيظل هو (عراب) السينما فى العالم، الرجل ذو الـ85 عاما ولا يزال شابا وعفويا وتلقائيا على الشاشة!!.
نقلا عن المصرى اليوم