( 18 أكتوبر 1978- 2 ابريل 2005 )
بابا الكنيسة الرومانية الكاثولوكية رقم 263
إعداد/ ماجد كامل
جاء عصر البابا يوحنا بولس الثاني في فترة مضطربة مليئة بالأحداث السياسية الهامة ، ومن هنا حرص قداسته علي توجيه خمس رسائل إجتماعية ، جا ء أولها بتاريخ 15 مارس 1979 بعنوان " فادي الإنسان " وفيها ركز قداسته علي العلاقة بين كرامة الإنسان وسر التجسد الإلهي .
ففي جزء منها بعنوان " الإنسان المفتدي ووضعه في العالم المعاصر " وفيها يؤكد بما أن السيد المسيح قد اتحد بالتجسد مع كل إنسان ، فالكنيسة تري أن من أولي واجباته أن تسعي دائما إلي تحقيق هذه الوحدة وإلي تجديدها . ليؤمن كل إنسان بالمسيح ، وطريق الكنيسىة الأساسي هو يسوع المسيح ، وهو طريقنا إلي كل إنسان ، ولقد أكد المجمع الفاتيكاني الثاني في مواضع مختلفة من وثائقه هذه العناية الخاصة التي تبذلها الكنيسة لكي تزداد الحياة ملائمة مع ما للأنسان من كرامة فائقة من جميع الوجوه .
لكي تصبح الحياة أكثر إنسانية ، وهذا هو هدف المسيح نفسه . ...... فالمسيح من خلال سر الفداء ، أنضم إلي كل إنسان في كل زمان ، فكل إنسان يأتي إلي الحياة ، بعد أن حبلت به أمه ينعم برعاية الكنيسة بفضل سر الفداء ، وتتناول هذه الرعاية الإنسان بكامله ، وتتركز بطريقة خاصة عليه . ومن هنا لا يجوز للكنيسة أن تتخلي عن الإنسان الذي يرتبط مصيره بالمسيح ارتباطا لا ينفصم ، ونعني بالإنسان هنا أي إنسان وجد علي سطح الكرة الأرضية . ويشير قداسة البابا إلي أن التطور التقني الذي يتميز به عصرنا يتطلب تقدما موازيا في حقل الأخلاق والحياة الأدبية . ولكن هذا التقدم يبدو دائما و يا للأسف متخلفا عن ذاك . والسؤال الذي يجب طرحه هو التالي : " هل يجعل التقدم الذي أحرزه الإنسان ويدافع عنه ، هل يجعل حياة الإنسان علي الأرض أكثر إنسانية من جميع الوجوه ؟ هل اصبح الإنسان في إطار هذا التقدم أحسن مما كان ؟ أي هل أصبح أنضج روحيا ، وأكثر وعيا لكرامته الإنسانية وتلبية لداعي الضمير وأحن علي الغير ؟ ولا سيما الذين يعانون من حرمان ومرض ؟ وهل هو اكثر استعدادا للعطاء ولمد يد المساعدة للجميع ؟ هذا هو السؤال الذي يجب علي المسيحين أن يطرحوه ( كيرلس سليم بسترس :- مدخل إلي اللاهوت الأدبي ، تعليم الكنيسة الإجتماعي ، الجزء الثاني ، منشورات المكتبة البولسية ، صفحتي 222- 225 )
كما تطرق قداسته إلي الأخطار التي تهدد حياة الإنسان اليوم ، ومنها ما أسماه بحضارة الاستهلاك القائمة علي توفر الخيرات التي تحتاجها المجتمعات الغنية ، بينما تظل المجتمعات التي تحت الفقر تعاني من الجوع ، فكل يوم يموت كل من يعاني من الجوع والحرمان ، ويتهم قداسته البني المالية والتجارية بالعجز في القضاء علي الظلم الموروث من العهود السابقة ، وتزداد حدة الشعور بالأزمة بوجود طبقات معينة تنعم بالرفاهية إلي درجة يصبح غناها الفاحش مثير لاضطرابات مختلفة ، وهذا أمر يجب أن يدفع بمبدأ " التضامن " بمعناه الواسع ، وإعداد قوانين تتعلق بمراقبة الخيرات وتوزيعها توزيعا عادلا يلبي الحاجات المباشرة لتتمكن الشعوب المتخلفة اقتصاديا لا أن تؤمن حاجاتها الضرورية فحسب ، بل أن تتطور شيئا فشيئا تطورا أكيدا .
كما تعرض البابا في رسالته إلي ضرورة التغلب علي النوازع التي تميل بالإنسان إلي القتال والسيطرة ، وعلي الكنيسة واجب الدعوة إلي الكف عن القتل والدمار ، وإلي إحترام كرامة كل إنسان وحريته ( كيرلس سليم بسترس :- نفس المرجع السابق ، صفحتي 225 و226 ) .
كما تعرض قداسته للميثاق العالمي لحقوق الإنسان ، ويطالب الكنيسة بتأمين هذه الحقوق ، ويكرر العبارة التي وردت في مجمع الفاتيكان الثاني " إن السلام يقوم علي احترام حقوق الإنسان التي لا تمس ، فالسلام صنع العدالة " .
ولقد شدد البابا في رسالته علي ضرورة إحترام للحرية الدينية وحرية الضمير ، فالحد من الحرية الدينية وخرقها يتنافيان مع كرامة الإنسان وحقوقه الوضعية . وينهي قداسة البابا الرسالة بقوله " لسنا نطالب بأي إمتياز بل باحترام حق أولي بسيط ، وممارسة الحق إنما هو خير برهان علي تقدم الإنسان في كل مجتمع وفي كل نظام وأسلوب حكم ومحيط . ( كيرلس سليم بسترس :- صفحة 228 ) .
ويؤكد البابا في نفس الرسالة أن الكنيسة مسئولة اجتماعيا ، ويجب علي رجال العلم من مختلف التخصصات في ( الطبيعيات – الآداب – الأطباء – رجال القانون – الفن – التقنيين – رجال التربية والاجتماع - ...الخ ) هؤلاء جميعا لهم دور فعال في خدمة الكنيسة .
ثانيا :- العدالة والرحمة :- 30 نوفمبر 1980 .
وفيها يؤكد البابا علي أن رسالة الكنيسة هو إعلان رحمة الله فيقول " الكنيسة تحيا حياة حقيقية عندما تعترف بالرحمة وتعلنها علي أنها الصفة الأروع للخالق والفادي ....... ولقد علمنا السيد المسيح أن الإنسان لا ينال رحمة الله ويختبرها وحسب ، بل هو أيضا مدعو أن يصنع الرحمة للآخرين ، وعمل الرحمة لا يفيد فقط من ينال الرحمة ، فإن من يصنع الرحمة يتحد بالمسيح الذي غفر لصالبيه ......... وبغير هذه الرحمة الرحيمة ، لا يمكن بناء حضارة المحبة التي تحدث عنها البابا بولس السادس ورأي فيها الهدف الذي يجب أن تسعي إليه كل الجهود في الميدان الإجتماعي والثقافي ، كما في الميدان الاقتصادي والسياسي . فلقد أكد مجمع الفاتيكان الثاني مرارا ضرورة جعل العالم أكثر إنسانية . وعالم البشر لن يصير أكثر إنسانية إلا إذا أدرجت المغفرة والتسامح في علاقات الناس بعضهم ببعض ، فإن عالما من دون محبة يصبح عالما يقتصر علي العدالة الباردة والفاقدة الاحترام ،يطالب بموجبها كل واحد بحقوقه بإزاء الآخرين ، وهذا يفسح المجال لتحول المجتمع البشري إلي نظام تعسفي يقهر فيه الأقوياء الضعفاء ، أو يتحول إلي ساحة حرب دائمة .
( كيرلس سليم بسترس :- نفس المرجع السابق ، الصفحات من 244- 246 ) .
و علي الكنيسة أن لا تتخاذل أمام صعوبات رسالتها مهما تكن مقاومة التاريخ البشري شديدة ،ومهما يكن إنكار الله في العالم قويا .
ثالثا :- العمل البشري :- 14 سبتمبر 1981 .
وكثير من مواضيع هذه الرسالة يتناول قضايا إجتماعية متعددة ؛ ومنها أهمية " العمل البشري " فهو المفتاح الأساسي لكل المشاكل الإجتماعية . وما يعطي العمل قيمته أنه يصدر عن الإنسان ، وهو يسهم في تنمية شخصيته ، ومن هنا توسع البابا في هذه الرسالة في حقوق العمال وواجباتهم ، كما تناول مشكلة الأجور ، وأهمية أن تكون الأجرة عادلة ، فهي التي تمكنه أن يضمن لأسرته حياة حرة كريمة ، وتدعو الرسالة إلي إعادة تقويم دور الأمومة ، فليس من العدل أن ترغم الزوجة والأم علي العمل المأجور خارج البيت ، إذا ما تعارض هذا العمل مع الأهداف الرئيسة التي تلازم رسالة الأمومة ، أو تكون عائقا دون كمالها ( كيرلس سليم بسترس :- مرجع سبق ذكره ؛ صفحة 255 ) .
كما تناول قداسته قضية تنظيم العمل ووقته ، وضرورة أن يتناسب العمل مع سن العامل وظروفه الصحية ، مع مراعاة الفروق النوعية بين الذكور والأناث ، فلن تكون تنمية دور المرأة بناءة إذا تمت علي حساب أنوثتها أو أسرتها . كما أكد قداسته علي أهمية التعويضات والتأمينات الإجتماعية التي تضمن حياة العامل وصحته ، ولا سيما في حالة المرض الطاريء الذي يتعرض له ، مع مراعاة حقه في الراحة الأسبوعية والأجازة السنوية مع مراعاة الحق في التقاعد وضمان الشيخوخة ، مع مراعاة حق العامل في عمل لا ينال من صحته الجسدية وكرامته الإنسانية .
كما تعرض قداسته لقضية " البطالة " التي وصفها أنها "آفة اجتماعية " ، فهي من جهة تحرم المجتمع من طاقات معطلة ، ومن جهة أخري تحرم الإنسان أن ينمي إنسانيته من خلال العمل الشريف . فالعمل حق أساسي لكل إنسان ، ولا بد من السعي لكي يتوفر لكل إنسان بالتخطيط العام علي الصعيدين الوطني والدولي ، ويري قداسته أنه من حق العاطل عن العمل الحصول علي أن يقدم له من التعويضات ما يمكنه من العيش ، انطلاقا من حقه في الحياة وفي مقومات هذه الحياة ( صفحة 257 من نفس المرجع ) .
ومن هنا تأتي أهمية النقابات العمالية ، التي يري قداسته انها امتداد لاتحادات الحرفيين في القرون الوسطي ، والخبرة التاريخية أثبتت ان هذه التنظيمات المهنية أضحت الآن أمرا حيويا لا بد منه في الحياة الإجتماعية لا سيما في الصناعات . ويؤكد البابا في الرسالة علي النقابات أنه يجب أن لا تتصف بصفة الأحزاب السياسية ، ولا أن تخضع لقراراتها ولا تربطها بها علاقات وثيقة ، كما يدعوها أن توجه اهتمامها إلي الإنسان العامل في مجالات التعليم والتربية والتنمية الإنسانية " .
وتقر الرسالة حق العامل في الإضراب كوسيلة للوصول إلي حق مشروع في نطاق مشروع وحدود معينة . يحيث يكون الإضراب هو الوسيلة الأخيرة والقصوي ، وأن يكون في إطاره المهني ، بحيث لا يسخر للصراعات السياسية ، فالتطرف في اللجوء الي الإضرابات يتسبب في شلل الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، مما يتنافي مع الصالح العام .
ولقد تناول البابا في الرسالة أيضا ( كرامة العمل الزراعي – حق الإنسان المعاق في العمل – العمل ومشكلة الهجرة ) .
ثم ختم قداسته الرسالة بأهمية الربط بين الأخلاق والإيمان في رؤية توحد بين ملكوت الله والعالم الحالي ، فالعمل الإنساني هو مشاركة لله في عملة الخلق من خلال خدمة أخوتنا البشر – تمجيد الله في عظمة ما أبدع في الكون وما وضع في الإنسان من طاقات . ( لمزيد من الشرح والتفصيل راجع :- كيرلس سليم بسترس ، مرجع سبق ذكره ، الصفحات من 249- 262 ) .
رابعا :- الاهتمام بالشان الإجتماعي :- 30 ديسمبر 1987 .
وفيها يؤكد البابا علي ضرورة الاهتمام بحل مشاكل الاقتصاد العالمي وأبرزها الهوة الساحقة بين المناطق الغنية والمناطق الفقيرة ، كذلك مشاكل التخلف الثقافي كالأمية والتمييز العنصري ؛ وقتل روح المبادرة والإبداع في الأفراد ، وكل هذا يولد الشعور باليأس ، ويخلق نوع من الاغتراب النفسي . كما يندد البابا بآفة أخري هي الإرهاب وعمليات احتجاز الرهائن . كما أوصي قداسته في الرسالة بضرورة احترام حقوق الإنسان ، واحترام البيئة والحرص علي عدم تلويثها ، ويطالب بما أسماه " الحب التفضيلي للفقراء " ويذكر قداسته المسؤولين عن الأمم والمنظمات الدولية بواجبهم أن يضعوا في مخططاتهم البعد الإنساني الصحيح في المنزلة الأولي ، وأن لا ينسوا أن يولو ظاهرة الفقر المتصاعدة اهتمامهم الأول ، وأن المبدأ المميز للتعليم المسيحي السليم أن خيرات هذه الأرض ، هي في الأصل معدة للجميع ، نعم الحق في الملكية الخاصة حق مقبول و لازم ، لكنه لا يلغي أهمية هذا المبدأ
خامسا :- الرسالة الأخيرة السنة المائة ، قراءة معاصرة لرسالة الشئون الحديثة :- 1 مايو 1991
ولقد صدرت هذه الرسالة بمناسبة مرور مائة سنة علي أول رسالة إجتماعية أصدرها البابا لاون الثالث عشر (1878- 1903 ) بابا الكنيسة الكاثولوكية رقم 255 ، فلقد أصدر قداسته رسالة بعنوان " الشئون الحديثة " في مايو 1891 ( سوف نكتب عنها بالتفصيل في أقرب فرصة مناسبة إن شاء الله ) . فأراد البابا يوحنا بولس الثاني إحياء الذكري وإعادة قراءة الرسالة مرة أخري لاكتشاف ثروة المباديء الأساسية المطروحة فيها . وفي هذه الرسالة يؤكد البابا يوحنا بولس علي أهمية دور الكنيسة في بناء الحضارة ، فالكنيسة تخدم الإنسان بإعلان الحقيقة في شأن الخليقة التي وكلها الله إلي البشر ليثمروها بعملهم . وتحرص الكنيسة علي نمو المحبة المتفانية للقريب مما يؤدي إلي حلول سلمية للنزاعات الدولية ، وفي مساعدة الكنيسة للفقراء ، أكد قداسته أن المحبة لا تعني مجرد التصدق مما يفيض عنا ، بل أن نوفر الدعم لشعوب برمتها معزولة ومهمشة ، حتي تلحق تلك الشعوب بركب النمو والتقدم ، ويختتم قداسته الرسالة برفع آيات الشكر لله الذي جاد علي كنيسته بما تحتاجه من نور وقوة لتواكب الإنسان في مسيرته الأرضية شطر غايته الأبدية . وفي الألف الثالث أيضا ، سوف تظل الكنيسة وفية لعهدها بأن تجعل درب الإنسان هو دربها ، عالمة أنها لا تسير وحدها بل مع المسيح ربها . فهو الذي جعل من درب الإنسان دربه ، وهو الذي يقوده ، وإن خفي عليه ذلك " (راجع نص الرسالة بالكامل في :- كيرلس سليم بسترس ، نفس المرجع السابق ، الصفحات من 283- 299 ) .
بعض مراجع ومصادر المقالة :-
1- كيرلس سليم بسترس :- مدخل إلي اللاهوت الأدبي ، الجزء الثاني ، تعليم الكنيسة الاجتماعي ، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم ، رقم 30 ، منشورات المكتبة البولسية ، الطبعة الأولي ، 2001 .
2- الأب وليم سيدهم اليسوعي :- كلام في الدين والسياسة ، نحو لاهوت تحرير مصري ، تقديم جمال البنا ، دار مصر المحروسة ، الطبعة الأولي ، 2003 ، الصفحات من 157- 188 .
3-خوان داثيو :- معجم الباباوات ، نقله إلي العربية أنطون سعيد خاطر ، دار المشرق ،بيروت ، 2001 ، الصفحات من 380 – 386 .