أحمد الجمال
منذ قرن إلا ثمانى سنوات، أى منذ 92 سنة، استفتت «مجلة الهلال» مجموعة من مفكرى مصر حول ما يحلمون به لوطنهم بعد خمسين عامًا.. فقال أحمد باشا عبدالوهاب، وكيل وزارة المالية ووزيرها بعد ذلك، من بين ما قال: «المأمول أن تكون الكهرباء موفورة لكل إنسان، فالقرية ستكون إذ ذاك أشبه شىء بالضواحى، والراديو سيعمم استعماله، وأغلب الظن أن الكهرباء من أسوان والقطارة والمنحدرات الكثيرة ربما ستجعل الصناعات الزراعية وفيرة المحصول، تغنينا عن استيراد أى شىء، وقد تمكننا من تموين البلاد الأجنبية، وربما تمكننا من تصدير لحوم محفوظة وأسماك منوعة فى هيئة علب السردين، ثم إن فواكهنا الطازجة والمجففة- خصوصًا البلح والبرتقال والمانجو- جديرة باقتحام الأسواق الخارجية».
ثم أضاف: «ثم إننا سنكون قد تخلصنا للأبد من الاعتماد على محصول واحد، وإنها لأمنية جريئة أن نحل مكان أوروبا فى تموين البلاد الشرقية، أى الشقيقات العربيات، بالأقمشة، لاقتراب العادات، وجريًا وراء التعاون المؤسس على التفضيل والتفاهم المشترك، فهل أقمشتنا القطنية والحريرية والصوفية سترتقى بسرعة هائلة فتسد حاجتنا وتفيض بفضل الكهرباء قبل المهارة والحذق؟.. وهل مصر ستصنع الطيارات بكثرة؟، ذلك لأن الطيارة قد أخذ صنعها فى البساطة بحيث يتمكن الصانع المدرب من بنائها كما هو الحال فى عدة اللاسلكى».
ثم تحدث عن صناعة السينما والراديو، فقال: «إن القاهرة ستكون باريس الشرق بملاهيها ومسارحها ومعاهدها ومعارضها ومتاحفها.. ثم ذهب إلى أن سياسة مصر المالية يجب أن تقوم على أساسين جوهريين، هما العمل على حماية المنتجات والمحاصيل المصرية، وتشجيع الصناعات القومية، ثم زيادة الدخل والاقتصاد فى النفقات».
وفى التربية والتعليم والثقافة العامة أدلى الأستاذ محمد العشماوى بك، السكرتير العام لوزارة المعارف، بما يتمنى أن يحدث بعد خمسين عامًا، فبدأ بأنه يتمنى أننا سنكون بعد نصف قرن قد دفنا «الأمى الأخير» على شرط أن نكون قد نفذنا التعليم الإجبارى بقانون صارم يعاقب من يتخلف عن تعليم أولاده، ثم تعليم الكبار على الكره منهم، ويجب أن ندفن الأمى الأخير بغير احتفال، لكن يصعب علىَّ تعيين الوقت الذى ندفنه فيه.
ثم توقع العشماوى بك سنة 1932 أن تكبر ميزانية التعليم، مؤكدًا أنها ستفوق ميزانية وزارات الحربية والبحرية والطيران مجتمعة، لأنه يعتقد- عام 1932- أن مصر لن تأخذ يومًا من الأيام بسياسة التسليح، فهى مسالمة بطبيعة أهلها، وبعد الاتفاق مع بريطانيا، وبعد أن تصبح عصبة الأمم أداة فعَّالة فى فض المشاكل وحسم النزاعات، فأى حاجة تبقى لكى تصرف الشعوب عن سعيها للتسليح، وسيكون العصر القادم فريدًا فى حياة الإنسانية من ناحية العدول عن الحرب المسلحة إلى التفاهم والتراضى والتعاون.
وتوقع السكرتير العام لوزارة المعارف العمومية عام 1932 أن ما يُرى اليوم- آنذاك- صوتًا خافتًا عن المدارس الصناعية والفنية والزراعية سيسفر فيما يأتى من الزمن عن تصميم وعزم مقرون بالتنفيذ.. فالمستقبل للمدارس الصناعية والفنية والزراعية، ولن تخرّج مدارس الثانوية العامة أكثر من حاجة الجامعة والمدارس العليا، وهذا لخير مصر التى ستشعر بحاجتها إلى البناء والإصلاح فى شتى ميادين النشاط الحيوى، وتلك ضرورة تصحح بها حالة البلاد الراهنة، ونحن- سنة 1932- سنلبى نداء الوطن الذى يسعى إلى الأمام، ونكفل له شبابًا يحمل مسؤوليات تركنا حملها للأجانب وأهملنا ما تبقى منها.
ثم تطرق العشماوى بك إلى معهد الموسيقى والتمثيل، فتنبأ بأن مصر بعد خمسين سنة تالية على 1932 ستكون مركزًا لنهضة فنية عظيمة، وأن انقلابًا خطيرًا قد شرع يبرز، وأن معهد التمثيل سيتسع أيضًا للسينما.
وختم بما يراد لمستقبل الجامعة، حيث كانت جامعة وحيدة هى القاهرة، فقال إنها تسير ببطء لكن بوثوق، وتتقدم تدريجيًا على الأسس العلمية الصحيحة، ونحن- آنذاك- مضطرون للاستعانة بالأساتذة الأجانب، وفى الغد ستقترض منا جامعات أوروبا أساتذة فى العلوم الشرقية، وربما فى التشريع والفلسفة، وهنا أذكر- والكلام مازال للعشماوى بك سنة 1932- أن كاترين، زوجة بطرس الأكبر، لما وليت الحكم أنشأت جامعة روسية، كل أساتذتها من الألمان، فلم يمضِ وقت طويل حتى حل الروس مكان الألمان ومهروا فى العلوم والآداب وتفوقوا فى الفنون، وكذلك فعل فردريك الأكبر، ملك بروسيا، الذى فُتن بالثقافة الفرنسية، واستقدم فولتير إلى بلاطه، وكان يعرض عليه شعره، فإنه أنشأ جامعة جعل مديرها أحد العلماء الفرنسيين، يعاونه رهط من بنى جنسه.
وفى الختام، فإن جامعتنا ستكون مركز الدراسات الشرقية، ومشرق أقمار تعيد لنا صيت العرب والفراعنة، وستكون القاهرة قبلة يحج إليها المشارقة جميعًا وبعض المغاربة لإتمام علومهم.
ومن جانبى عام 2024 أقول: فرق كبير بين من كان لديهم قدرة على الحلم بالمستقبل وتوقعه والإعلان عن ذلك، ومن يهربون للنبش فى الماضى هروبًا من الحاضر والمستقبل.
نقلا عن المصرى اليوم