مصطفى الفقي
لا يقدم العرب ولا المصريون صورتهم الحقيقية للعالم المعاصر، فهل تعلم شعوب الدنيا أن الديانة اليهودية مكرمة بما تستحق فى أرجاء المدن العربية؟، وهل يعلم غيرنا أن فى القاهرة وحدها ما يزيد على عشرة معابد يهودية صالحة لأداء الطقوس الدينية، وأنه لم يجرِ المساس بها فى ظل الظروف الصعبة أعوام 1948 و1956 و1967 و1973؟، فنحن أمة تقدس الأديان وتحترم العقائد ولكن الطرف الآخر لا يعرف ذلك، فما أكثر ما هدم اليهود من مساجد وما اعتدوا عليه من كنائس بدعوى أنهم شعب الله المختار.
جاءتنى هذه الأفكار وأنا أتذكر يوم أن أبلغنى الدكتور خالد العنانى، الذى كان وزيرًا متألقًا للآثار والسياحة فى مطلع عام 2020، أن الرئيس السيسى قد كلفه بإبلاغى- كرئيس لمكتبة الإسكندرية- أن أكون المتحدث الذى يلقى كلمة مصر فى يوم إعادة افتتاح المعبد اليهودى بالثغر بعد ترميمه وهو يقع فى مواجهة مقر كنيسة الإسكندرية الكبرى غير بعيد عن ميدان المساجد لتأكيد أن الإسكندرية بعراقتها المشهودة تجمع فى قلبها مواقع دينية ترمز إلى الديانات السماوية الثلاث، وذهبت يومها لإلقاء كلمة الرئيس وسط حشدٍ ضخم من أجهزة الإعلام العربية والمصرية والعالمية، وأتذكر أننى على المنصة كانت أمامى غابة متشابكة من الميكروفونات وأجهزة التسجيل، مما جعلنى لحظتها أتذكر أن اليهود هم أساتذة الميديا فى العالم المعاصر، ويستطيعون إبراز أى مناسبة إذا أرادوا، وقلت يومها إن مصر احتضنت الديانات السماوية وما قبلها وكانت مصدر التوحيد الأول فى العالم، وقد كان من بين الحاضرين محافظ الإسكندرية ورموز جامعتها العريقة وقيادات العمل الوطنى والحياة العامة فى العاصمة الثانية، وذكّرت الجميع بأن وزير المالية المصرى منذ قرنٍ مضى كان يهوديًّا مصريًّا وأن الحاخام اليهودى قد شارك فى الأعمال التحضيرية لدستور 1923، مما يعنى تجذر روح التسامح لدى أبناء مصر، وقد تقدمت نحوى يومها السيدة ماجدة هارون، التى كانت تُعتبر رئيسة الجالية اليهودية الصغيرة فى مصر والدموع تنهمر على وجهها وهى تقول: أحمد الله أننى عشت لأرى الاعتزاز المصرى بيهوديتى إلى جانب جنسيتى!. إننى أكتب هذه السطور وأزيز الطائرات وأصوات القصف المدمر تصك الآذان لما يحدث فى غزة ضد الشعب الفلسطينى، وبقى أن يدرك العالم مَن المتسامح ومَن المتعصب ومَن الذى يسعى للمحبة والسلام ومَن الآخر الذى يقتل الأطفال والنساء والشيوخ، إننا أمام مشهد عبثى يؤكد للدنيا أن مصر واحة التسامح ومصدر الإلهام القوى للتماسك الوطنى تحت مظلة حرية العقيدة والوحدة الوطنية، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظتين التاليتين:
أولًا: إن المجلس الأعلى للآثار فى مصر قد قام تحت رئاسة الأثرى الشهير د. زاهى حواس ومن خلفه فى المنصب بترميم آثار إسلامية ومسيحية ويهودية بلا تفرقة لأن التراث الإنسانى واحد، ولأن كلمة الحق مشتركة بين الجميع، فلا مجال للتعصب والتطرف وإقصاء الآخر، ولقد زرت بعض هذه المواقع واكتشفت رعاية الدولة لها على نحوٍ يؤكد وحدة التراث الإنسانى واحترام مصر لكل الديانات.
ثانيًا: إن (إخناتون) عندما بشر بالتوحيد لأول مرة، فكأنما كان يقرأ فى صحيفة الغيب، إذ إن مصر سوف ترعى الديانات السماوية الثلاث التى وفدت على أرضها، وسوف تمتلك الكنانة بعد ذلك أكبر رصيد إنسانى للديانات الثلاث فى المنطقة، ويكفى أن نتطلع إلى مجمع الأديان فى قلب القاهرة التاريخية لنرى تعانق المسجد الإسلامى والكنيسة القبطية والمعبد اليهودى فى بقعة واحدة، ونشعر أن مصر بوتقة انصهرت فيها كل مؤشرات التاريخ الإنسانى وظواهره.
تحية للشعب المصرى العظيم، الذى يؤمن بالتسامح ويرفض التعصب ويحتفى برسالات السماء دون تمييز أو إقصاء!.
نقلا عن المصرى اليوم