نيفين مسعد
يحتاج المريض الذى يهاجمه الوَحش إلى دعم نفسى من نوعٍ خاص بحكم طبيعة المرض. ومن المؤكد أن كلمات التهدئة والطمأنة والتركيز على أن كل شئ سوف يمّر ولن تتبقّى منه سوى ذكرى تنذكر ما تنعاد ونشوفك بالأعياد على رأى جارة القمر فيروز- هذه الكلمات تساهم فى تطييب الخاطر، لكن هذا ليس هو المقصود بالضبط بالدعم النفسى. قالت لى إحدى طالباتى السابقات والتى هاجمها الوَحش بضراوة وهى مازالت بعد فى عُمر الزهور إن أفراد أسرتها لا يتفهّمون جيدًا جنوحها للعزلة واختلاءها ساعات طويلة بنفسها فى غرفتها، ويلّحون عليها فى أن تجالسهم كما كانت تفعل أيام زمان، وأحيانًا يذهبون خطوة أبعد بالاتصال بصديقتها الحميمة فإذا هى تطّب عليها دون سابق إنذار ودون استعداد نفسى منها لمقابلة أحد. لا تدرك هذه الأسرة الطيبة أن الاختلاء بالنَفس يكون مطلوبًا، وربما مطلوبًا جدًا للمريض الذى يهاجمه الوَحش ويجد حياته بين يوم وليلة ودون سابق إنذار تنقلب رأسًا على عقب. هذه الخلوة تكون مناسبة لمراجعة الماضى وإثارة أسئلة من نوع: بعد كل هذا الجرى واللهاث طيلة السنوات الماضية هل كان الأمر يستحّق؟ هل كان هناك خطأ فى اختيار نوع الحياة وأسلوب العمل وتقدير الأولويات؟ هل كانت هناك حاجة لقضاء وقت أطول مع الأهل والأصدقاء والتشبّع منهم بمشاعر الحب قبل أن تتحوّل فى ما بعد هذه المشاعر إلى مشاعر إشفاق؟. لكن الخِلوة لا تكون فقط لإثارة الأسئلة، لكنها تكون أيضًا لفتح صندوق الصور والذكريات ولو على سبيل طمأنة الذات بأنه ربما يأتى يوم ما يعود الشخص إلى صوره القديمة وحياته القديمة وهيئته القديمة. فهذه صورة لإطفاء الشمعة الثالثة من عمر الحفيدة آخر العنقود، وهذه صورة مبهجة لاجتماع أُسَرى فى شاليه بالساحل الطيب تظهر فيها عشرات الرؤوس وما لا يقّل عن ثلاثة أجيال كاملة، وهذه صورة أُخذت على غفلة وقد امتلأت أفواه كل من فيها بالطعام واتفق الجميع على ألا تُنشَر على السوشيال ميديا من باب الحفاظ على الوقار. أذكر أننى بعد إجراء أول جراحة وكانت معاناتى النفسية والجسدية فى ذروتها- سَحَبتُ إحدى صورى القديمة وأنا ارتدى ألوانى الزاهية كما هى عادتى وأجلس على مكتبى فى الكلية وقد اتخذت وضعى على سنجة عشرة كما يقولون، ثم عَرَضت الصورة على الممرضة الممتازة التى ظلّت تتردد عليّ طيلة شهر كامل، وقلت لها: شفتِ دي؟ فابتسَمت ابتسامة تليق بطبعها الهادئ وأشارت لى ثم عادت وأشارت للصورة وقالت: دى هى دى، وكانت مجاملة لطيفة تركَت من ورائها زغلالة دموع.
• • •
المريض الذى يهاجمه الوَحش ليس مضطرًا لأن يفسّر لمن حوله لماذا يشرُد أو يبكى أو يصمت أو ينفعل بشكل مبالغ فيه ويبدو غير مبّرر أحيانًا، وذلك ببساطة لأنه هو نفسه لا يعرف لماذا يدخل فى هذه الدائرة الخبيثة من المشاعر السلبية التى قد لا تكون متناسبة مع طبيعته الأولى. وإذا حاول المحيطون به أن يبحثوا عن أسباب تقلباته وتغيَراته المزاجية فالأرجح أن محاولاتهم سيكون مآلها إلى فاشوش (لا أعرف من أين أتت كلمة فاشوش لكنى أعرف أن الكل يدرك معناها ثم إننى استلطفتُ الاستشهاد بها فى هذا المقام). فليس هذا التغيّر المزاجى مرتبطًا بالضرورة بالألم، لكنه قد يكون نتيجة القلق والخوف والهواجس المشروعة من مرض ليس له كتالوج ولا يمكن التنبؤ بتطوّره وخط سيره رغم التقدّم الكبير فى سبل علاجه. أذكر إننى عندما سألتُ طبيب الأورام الجاد جدًا سؤالًا حول احتمالات أن يتطوّر مرضى على خلاف ما قد ذكره لى ردّ عليّ الردّ المقتضب التالي: هو انتِ فاكرة نفسك أول مريضة كانسر فى العالم؟ ابتلعتُ كسفتى وقلت له: طبعًا لا لكنى لا أعرف سوى حالتى. كنتُ أتمنى أن يطمئننى الطبيب على أننا بعد أن اقتلعنا الوَحش لن يعود ليفترس جسدى مجددًا، وأعتقد أن كل مَن تعرّض لمثل هذه المحنة القاسية يطارده هذا السؤال مهما طال به الوقت، لكن الطبيب لم يفعل، وربما أكون قد حمّلته أكثر مما يحتمل لأن كل حالة مَرَضية لا تشبه غيرها. وهذه عيّنة واحدة فقط من الهواجس التى تداهم الواحد منّا والكفيلة بأن تدفعه دفعًا إلى دائرة المشاعر الخبيثة إياها.
• • •
لماذا لا يستعين بالضرورة كل المرضى الذين يداهمهم الوَحش بالعلاج النَفسى مع أنه يُوصى به عادةً فى مثل حالتهم؟ أتصوّر أن البعض منهم قد لا يرتاح إلى فكرة العلاج النفسى من أساسها ومازال يتأثّر بالانطباع السلبى القديم عن الشخص الذى يتردّد على الطبيب النفسى للعلاج، والبعض الآخر قد لا يريد أن يضيف إلى الأدوية والإبر والمحاليل التى يتعاطاها مزيدًا من مهدئات الأعصاب ومسكنّات الاضطراب والقلق، والبعض الثالث قد لا يجد فى نفسه الرغبة فى البوح والفضفضة والكلام عن مرضه حتى ولو كان الطرف الآخر طبيب نفسى. والخلاصة أن الامتناع عن العلاج النفسى لا يعبّر عن موقف سلبى منه بالضرورة. وبالنسبة لى يمكن القول إننى أنتمى إلى الفئة الثالثة من المرضى، فلقد أتى عليّ وقت كنتُ أشعر فيه بأننى أصبت بالخَرَس التام، وكانت كل محاولات استدراجى للكلام لا تفعل إلا أن تدفعنى دفعًا للتشبّث بالصمت، وربما كان فى ذلك رحمةً بمَن حولى فلو تكلّمت لزدتهم إيلامًا لأن الكلام إن كان قد خرج لأتى على شاكلة داخلى مشّوشًا مكسورًا.
• • •
لم أختر وصف الوَحش لهذا المرض من فراغ لأنه حتى لو ذهب إلى غير رجعة فإنه يترك ندوبًا كثيرة فى أعماق أعماق الروح. هذه الندوب تأخذ وقتًا طويلًا حتى تخّف وتشفى ولا يفيد معها الاستعجال أبدًا فليس أصعب من مداواة ندوب الروح.
نقلا عن الشروق