توفيق اكليمندوس
الكيل بمكيالين أكثر الاتهامات شيوعا فى عالم العلاقات الدولية و ويتسابق الفرقاء على توجيهها.
الاتهام شائع لأن كلنا نكيل بمكيالين، فى العلاقات الدولية تنظر الدول إلى القضايا بمنطقين، أولهما سياسى و/أو نفعى وثانيهما قانونى و/أو أخلاقى، إحدى سمات القاعدة القانونية أو الأخلاقية هى العمومية، تنطبق على القوى والضعيف، على الغنى والفقير، على الدولة الشقيقة والدولة العدوة، نعم هناك عجز عن فرض احترامها فى المجال الدولي، ولكن هذا العجز لا يعنى أن القانون لا وجود له.
فى المقابل المهارة السياسية هى القدرة على فهم خصوصية كل وضع، وعلى فهم أوجه التشابه والاختلاف بينه وغيره، وعلى التصرف بناء على هذا الفهم، على سبيل المثال لا يمكن مطالبة مصر بإبداء نفس التضامن مع هاييتى ومع غزة ولا يمكن مطالبة أى دولة فى العالم بالتعامل مع دولة مالكة لأسلحة نووية كما تتعامل مع إمارة صغيرة.
ولذلك يجب التحديد، فهناك كيل بمكيالين مفهوم يمكن تبريره وكيل بمكيالين لا يمكن التماس العذر له، ولا أعرف قوة أو تيار سياسى لم يكل بمكيالين مرات ومرات فى مواقف لا يمكن تبريرها، كلنا ارتكبنا هذا الخطأ وسنرتكبه..لا يعنى هذا أن كلنا سواء، فهناك من يؤمن بمفهوم الإنسانية المشتركة ومن لا يؤمن به، وهناك من يخدع نفسه ويتصور أنه منصف ومن يعرف حقيقة أفعاله.
عامة من يندد بالكيل بمكيالين يفعلها فى إطار خطاب مظلومية و/أو خطاب شيطنة، وهناك مظلومية حقيقية ومظلومية مزيفة، وهناك مظلومية تشير إلى ملف معين أو إلى أحداث هامة معينة، ومظلومية ترى نفسها بالحق أو بالباطل وجودية، مطلقة، لن تزول، حتى لو أصبحت الضحية جلادا، وهناك مظلومية تركز على آلام المظلوم وما تعرض له، وأخرى مهتمة بإدانة للظالم وللشاهد الذى لا يتدخل، وهناك توظيف رشيد للمظلومية وتوظيف غبي.
والشيطنة سلاح ذو حدين، من ناحية هى سلاح فى خطاب الحروب، يفيد فى الحشد والتعبئة، وفى التوعية بالخطر، وهناك أيضا أنظمة سياسية وساسة أشرار، ولا يمكن وصفهم بألفاظ “محايدة” باردة، وهناك غضب طبيعى ومشروع بل واجب، فى المقابل شئنا أم أبينا يثير من يُشيطن شكوك قطاعات من المستمعين فى صدق روايته، حتى لو كان الظلم الواقع عليه بينا واضحا، ويعرض نفسه لشبهة أو تهمة العنصرية والتعصب، حتى لو كان هو الضحية البريئة، وهناك طبعا فارق بين شيطنة فرد و/أو نظام وشيطنة جماعة أو شيطنة شعب بأكمله.
ولكى أكون واضحا.. التاريخ عرف أمثلة لا حصر لها لقبائل أو شعوب تورطت فى ارتكاب مجازر جماعية لا يمكن نسبتها وتحميل مسئوليتها إلى قائد بمفرده، ولكنه يتعين على صاحب خطاب يبرز أو يحاول إبراز مسئولية جماعية لشعب عن جرائم أن ينتبه إلى ضرورة اختيار كلمات ومفردات لا تدفع المستمع إلى رفض كلامه.
ومن نافلة القول أن الحكم الأخلاقى أو السياسى على خطاب مظلومية أو على خطاب يشيطن يجب أن يأخذ فى عين الاعتبار السياق التاريخى ومعاناة القائل به، من ناحية على من لم “يجرب” الحياة فى بلد أو منطقة محتلة أن يتذكر أنه لا يعرف كم هى قاسية، ومهينة، ومخيفة، وأنه لم يذق مرارة الظلم اليومي، والإذلال الدائم على يد المحتل، الذى يستسهل العقاب الجماعى المتوحش، عليه أن يكون فاهما لهذا، وفى المقابل هناك أمور لا تجوز، ولا يمكن تبريرها، لا يمكن التسامح مع جلاد بربرى لأنه كان يوما ضحية.
أنهى منددا بخطاب رافض لمظلومية معينة بحجة أن التاريخ عرف ويعرف أحداثا وتجارب يكون الظلم فيها أشد فداحة، المقارنة بين التجارب التاريخية واجب المؤرخين، أو الفلاسفة، وتحمل دروسا حول مسببات المجازر، وحول مسئولية الجزارين، ولكنه لا يجوز عقدها لمطالبة مظلوم بالسكوت بحجة «نسبية» تجربته.
نقلا عن جريدة المال