طارق الشناوى
وكأن المدير الفنى للمهرجان تيرى فريمو يكتب سيناريو ليصل فى نهايته إلى لحظة الذروة، تتويج فيلم (بذرة التين المقدس) بأهم جوائز المهرجان (السعفة الذهبية).
المشهد الأول، الذى خطط له فريمو بحنكة وذكاء، يبدأ بالإعلان عن عرض الفيلم، مع غموض يحوم حول المخرج هل يشاهد فيلمه مع الجمهور أم لا، خاصة أنه ممنوع ليس فقط من السفر، ولكن قبلها أيضًا ممنوع من ممارسة المهنة وعليه أحكام واجبة النفاذ بالسجن 8 سنوات وأيضًا الجلد؟.
المشهد الثانى تتم (البرمجة) للفيلم فى اليوم الأخير للفعاليات، حتى يزداد تعطش الجمهور لمشاهدة الفيلم، المشهد الثالث التأكيد قبل ساعات من العرض على حضور المخرج محمد رسولوف وصعوده على سلم قاعة (لوميير)، حيث نجح فى الهروب من البلاد خلال اللحظات الأخيرة، ويقيم حاليًا فى دولة أوروبية، برغم الملاحقة القانونية التى فرضتها السلطات الإيرانية، كل هذه المشاهد تابعها الملايين عبر (الميديا)، حتى الذين لا تعنيهم السينما ولا المهرجانات، إلا أنها قطعا تمتلك كل أسباب التشويق. المشهد الرابع الذى أتصور أن المدير الفنى تمنى حدوثه، لأنه لا يملك تحقيقه، هو تتويج الفيلم الإيرانى بجائزة (السعفة الذهبية)، من الواضح أن رئيسة لجنة التحكيم، المخرجة جريتا جيرويج، أضافت بصمتها الخاصة على السيناريو السابق، ومنحت المخرج محمد رسولوف جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وهى قطعًا لا ترقى إلى (السعفة)، إلا أنها فى كل الأحوال لم تفسد السيناريو الذى وضعه فريمو، لأنها تعنى اعتراف اللجنة بإبداع المخرج.
ظلت صورة رسولوف واستقباله الحافل فى القاعة عند عرض فيلمه، الجمعة الماضى، وبعد حصوله على الجائزة، هى العنوان الأكثر بريقًا للميديا لمهرجان (كان) فى دورته 77.
وصعد على المسرح محمد رسولوف قبل 36 ساعة، شاكرًا المهرجان، ومشيدًا بزملائه الذين لم يتمكنوا من السفر للمهرجان لأنهم على قائمة الممنوعين من السفر، ولايزالون رهن التحقيق، كما أنه على سلم قاعة دار العرض رفع هو وإحدى بطلات الفيلم صورهم أمام الجمهور، كما أنه ذكرهم بكل تقدير فى كلمته، التى ألقاها بالفارسية وتمت ترجمتها للإنجليزية والفرنسية، معلنًا أن للأفكار أجنحة قادرة على التحليق دومًا والطيران بعيدًا عن مرمى النيران، وهكذا صار من مجرد مواطن ينتظر حكمًا بالسجن ثمانى سنوات وجلد وتنكيل، لأجل غير مسمى، إلى بطل يقف مرتين خلال 24 ساعة على مسرح قاعة (لوميير) مستمعًا إلى نبضات قلوب الناس تحوطه وتحميه وتؤكد أن الرسالة وصلت. (بذرة التين) فى الثقافة الإيرانية، كما يشير أكثر من مرجع، هى بذرة تنبت عشوائيًا، ولكن حتى تواصل النمو تغتال كل النباتات الأخرى حولها حتى تنفرد هى بالحياة، ولا يقاسمها مصدر المياه أى ثمرة أخرى بجوارها.
استمد رسولوف حكاية البطل من تلك النبتة، فهو- كما يبدو فى بداية الأحداث- محب لأسرته، عاشق لزوجته وابنتيه، ناجح فى مهنته كمحامٍ، تفكر الدولة فى الاستعانة به فى منصب قضائى داخل النيابة حتى يصعد بعدها إلى درجة القاضى، يكتشف أن عليه الموافقة على كل أحكام الإعدام بحق المواطنين الذين تعتبرهم الدولة الإيرانية وتصنفهم من الأعداء، يوافق على تلك المقايضة التى يبيع من أجلها قناعاته، ولأنه يصبح مطلوبًا أمام أعداء الوطن كما يطلقون عليهم يتم تسليمه مسدسًا لحمايته الشخصية.
فى خط موازٍ لكل ذلك تندلع المظاهرات فى الشارع الإيرانى مطالبة بالحرية وبعدم فرض الحجاب على الرؤوس، العنف الذى مارسته السلطة أوضح أنها فاقدة السيطرة على مجريات الأمور.
النقاش بين الأب وابنتيه وزوجته أكد على التباين العميق فى الأفكار، بعد أن صار جزءًا من النظام، ولهذا يبرر القسوة والعنف الذى تغالى الدولة فى توجيهه لمن يختلف معها. وفى المظاهرات نرى الفتاتين تحاولان إنقاذ فتاة أخرى بعد أن أطلقوا على وجهها رصاصهم المطاطى العشوائى.
نصبح دراميًا أمام رجل فى مواجهة قبيلة النساء داخل المنزل، يشكلون أفراد الأسرة، يزداد الأمر شراسة داخل الأسرة، عندما لا يجد المسدس، وهو قطعًا وطبقًا للقانون يعرضه فقدانه للسجن.
فى مطاردات زادت مساحتها الدرامية أكثر مما ينبغى، نرى الوجه القاسى المقزز للرجل فى النزاع مع ابنتيه وزوجته، وفى مفارقة درامية تنزلق قدمه ويسقط، بينما الجمهور كان قد فقد تمامًا أى مسحة من التعاطف معه، الجمهور موقن، لو كانت الحياة امتدت به لقتل هو ومن فوهة مسدسه أقرب الناس إليه.
إنه تجسيد حى لتلك البذرة التى لا تنمو وتزدهر مثل (التين المقدس)، سوى على آلام وحياة الآخرين!!
الخط العام فى السينما الإيرانية، الذى رسخه المخرج الراحل عباس كيروستامى، صاحب فيلم (طعم الكرز)، يبدأ هادئًا ولا ينبئ فى العادة بأى صراع، ثم ينتهى إلى الذروة بالقتل أو الموت، ومن خلال تتابع السيناريو ينتقل رسولوف، بإيقاع لاهث إلى تلك الذروة. المخرج بحنكة استعان بلقطات توثيقية تناولت المظاهرات الأخيرة فى إيران، وضعها فى سياق الفيلم كجزء درامى، لنرى كيف واجهت الشرطة المحتجين خاصة من النساء بكل هذا العنف المفرط.
رسولوف حافظ على إيقاع الأحداث وتدفقها، من خلال بناء يبدو فى البداية هندسيًا، ثم بعد ذلك يصبح مع تتابع المشاهد انسيابيًا، رجل قانون يواجه قبيلة من النساء هن أقرب الناس إليه، على استعداد أن يضحى بهن جميعًا من أجل أن يظل هو فى موقعه داخل السلطة، متجاوزًا كل مبادئ القانون.
عندما تشاهد فيلمًا إيرانيًا يتم تصوير جزء من مشاهده فى ايران، والمخرج أساسًا ممنوع بحكم قضائى من ممارسة المهنة، يصبح السؤال: كيف تم ذلك؟ هل كان المخرج مثلًا يكتب (الديكوباج) تقطيع اللقطات أحجامها وزوايا الكاميرا، ويعهد بها إلى عدد من تلاميذه ومساعديه للتنفيذ.
يبقى أهم سيناريو، ولا أتصور أن محمد رسولوف سوف يبوح به على الأقل الآن، وهو كيف تمكن من الهروب خارج البلاد، رغم أنه أمنيًا تحت المراقبة، هل ساعده بعض ممن هم لايزالون محسوبين على النظام؟ أظن أن تلك بذرة حقيقية ومقدسة بصدق وشفافية لمشروع قادم يشرع رسولوف بتنفيذه!!.
نقلا عن المصرى اليوم