محمد أبو الغار

الفن ينبع من الإنسان، وها هو الإنسان البسيط فى قرية صغيرة من صعيد مصر يحقق أمجادًا فى مهرجان سينمائى عالمى عجزت عن تحقيقه مؤسسات تنفق المليارات لأن الفن الحقيقى فى النهاية هو الذى يؤثر ويبقى. أعرف بنات البرشا من زمان، وأعرف تريزا التى أنشأت أول فرقة مسرح عام ٢٠٠٤، وأعرف أختها الصغرى يوستينا، التى حملت المسرح على كتفيها، وطورت الفرقة بعد سفر تريزا للعمل فى القاهرة، ثم الهجرة لأمريكا. الفيلم المصرى لبنات البرشا «رفعت عينى للسما» فاز بجائزة العين الذهبية لأفضل فيلم تسجيلى فى مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائى فى الدورة ٧٧ لعام ٢٠٢٤. ويدور الفيلم حول تمنيات وأحلام فتيات فى قرية صعيدية مصرية. وهو من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير، وبطولة فريق مسرح بانوراما برشا: ماجدة مسعود وهايدى سامح ومونيكا يوسف ويوستينا سمير ومريم نصار وليديا هارون. وقالت لى يوستينا سمير، رئيسة الفرقة، فور عودتها من فرنسا، إن مدة عرض الفيلم ساعة و٤٥ دقيقة، وقد عُرض مرتين فى نفس اليوم، العرض الأول للنقاد، وحضر هذا العرض بجدعنة نجيب ساويرس وحسين فهمى، وقاما بالسلام على الفرقة والمخرجين، وكان الموقف مؤثرًا جدًّا.

 

تدور أحداث الفيلم عن مجموعة من البنات اللاتى قررن أن يؤسسن فرقة مسرحية ويعرضن مسرحياتهن المستوحاة من الفلكلور الشعبى الصعيدى فى شوارع قريتهن البرشا فى محافظة المنيا مركز ملوى حتى يسلطن الضوء على قضايا مثل الزواج المبكر وتعليم البنات والعنف الأسرى ويتكلمن عن أحلامهن البسيطة. واستمر المخرجان المبدعان ندى رياض وأيمن الأمير على مدار ٤ سنوات فى توثيق رحلة البنات، واكتشاف مشاعرهن ونمط حياتهن وأحلامهن.

 

مهرجان كان بدأ عام ١٩٤٦، واشتركت فيه مصر بعدد كبير من الأفلام اعتبارًا من ١٩٥٢، وفاز الفنان يوسف شاهين بجائزة «السعفة الذهبية» عن مجمل أعماله عام ١٩٩٧، وفاز بمسابقة الأفلام القصيرة عام ٢٠٢٠ المخرج سامح علاء عن فيلمه «أخاف أن أنسى وجهك» وفى عام ٢٠٢١ فاز عمر الزهيرى عن فيلم «ريش» فى جائزة أسبوع النقاد.

 

وقد بدأ نشاط الفرقة عام ٢٠٠٤، وبعد ثورة ٢٥ يناير بدأت تقدم عروضها فى شوارع البرشا، وسجلت الفرقة رسميًّا عام ٢٠١٤. وفى عام ٢٠١٦ قدمت أعمالها فى مهرجان مسرحى فى تونس بعرض اسمه «الفرح»، وكان يناقش مشكلة الزواج المبكر للفتيات. وبعد العودة استمرت العروض فى الشارع، وتجاهلها الناس، وتعرضت الفرقة فى البداية للاستهزاء من المارة فى الشارع. وبدأ شادى خليل، وهو شخصية محبوبة، فى تدريبهن على التمثيل. وفى هذه الفترة انتقلت تريزا للعمل كصحفية فى القاهرة، وتولت يوستينا سمير مسؤولية الفرقة. كان شباب القرية من الذكور يرفضون الاشتراك فى المسرحيات، وكانوا يستهزئون بها.

 

بدأت ترتيب جلسات وورش كتابة، وكانت يوستينا تكتب نصًّا مسرحيًّا بسيطًا، وبعد ذلك تمت الاستعانة بمدربين متطوعين. وبعد ٣ سنوات، بدأت العروض فى حوالى ٥ قرى مجاورة. تقول تريزا: «نحن كعائلة ٧ أبناء، ٤ بنات وثلاثة أولاد، أمى كانت تقول: (البنت بميت راجل)، الأطفال الذين كانوا معنا كبروا وكبرت معهم الأفكار، وغيروا مفاهيم القرية، والمسلمون كانوا يحضرون، ومغنية المسرح كانت فتاة مسلمة، من ذوى الإعاقة. شكرًا لأبويا الذى أعطانا دورًا كاملًا فى البيت لإقامة المسرح، والبيت يفتح على شارعين، شارع مسيحيين وشارع مسلمين، وكانوا يدخلون ويحضرون العرض من الناحيتين».

 

فى عام ٢٠١٦ تلقت الفرقة أول دعم على شكل منحة فى السفارة الهولندية. وبعد أن كبرت الفرقة عرضت ١٠ مسرحيات بالبنات فى مطرانية ملوى. كانت الممثلات تلميذات فى الابتدائى والإعدادى والثانوى وخريجات، وكانت تشترك معهن فلاحات أميات. وكانت المسرحيات اجتماعية، وبعضها دينية عن حياة أحد القديسين، وكانت تريزا تُخرج، ويوستينا تقوم بدور البطولة.

 

وفى عام ٢٠١١ تأسست جمعية مصر للتنمية، وبدأت الحرب على الفرقة لأنهن بنات صعيديات يقمن بكل هذا، فقامت يوستينا بتأسيس فرقة بانوراما البرشا عام ٢٠١٤. وكانت المهمة الأساسية قضايا المرأة ومشاكل القرية بصفة عامة، وكان أول عرض مسرحى بعنوان «محاكمة القرية»، وهى مسرحية تنتقد كل ما يعتبره البنات سلبيات فى القرية مثل الختان والزواج المبكر والضرب من جانب الأب والأخ ولاحقًا الزوج للبنت، واعتبار أنه ليس لها رأى، ويجب ألا تُكمل تعليمها، وأن مستقبلها هو الزواج، وأن الفلكلور والمسرح أمور سيئة. وكن يطالبن بالحرية بغناء أغنية «سيبوا الهوا لصحابه».

 

ودُعيت الفرقة إلى المشاركة فى مهرجان صفاقس بتونس بمسرحية الفرح، وكانت الممثلة صغيرة جدًّا، فى يوم زواجها تلعب على المسرح بالعروسة. واهتمت الفرقة بأغانى الفلكلور الشعبى التى يتم غناؤها فى الأفراح والمناسبات. وكانت بعض الأغانى لها صبغة تاريخية تحكى عن حقائق التاريخ وقضايا المجتمع مثل أغنية كانت تُقال لمعايرة البنت التى تتأخر فى الزواج:

 

عمتى يا عمتى/ ما تبَيّضيلى الحلة

 

كل البنات اتجوزت/ وأنا قاعدة ألِمّ الجلة

 

سألت تريزا هل القرية كلها مسيحية فقالت: لا، ٥٠٪ مسلمون، وهم يحضرون المسرح معنا ويغنون.

 

ترشحت تريزا على قائمة الحزب المصرى الديمقراطى للبرلمان عام ٢٠١١، وكنت فى ذلك الوقت رئيس الحزب، وشجعتها، ودعمناها، وقالت لى تريزا، فى اتصال من نيوجرسى، أمس: «أهل البرشا شجعونى، رغم أننى كنت بنتًا صغيرة، وكانت بداية كسر العادات والأفكار».

 

المخرجة تقول إنها شاهدت بانوراما البرشة فى قرية أخرى، وأخذوا قلبها وعقلها، والبنات كن قريبات جدًّا من المخرجة، والبنات يقلن: لم نكن نعرف أن المسرح سوف يغير المجتمع، وقد صورن ٤٠٠ ساعة، ويشكرن المونتير لأن عمله كان صعبًا.

 

وتقول يوستينا: «مسرحنا ليست به إمكانيات، ولا توجد أماكن فنية فى الصعيد. مفيش مسرح ولا سينما، والبنات كان نفسهم الفيلم ياخد جايزة، وكل بنت لها مشاكلها الخاصة».

 

تهنئة كبيرة لمخرجى الفيلم، وكلنا يعلم صعوبة الإخراج خارج البلاتوه، أى فى الشارع والحارة والقرية التى تقبع فى الصعيد. مبروك عليكما الجائزة، «وعقبال الجوائز القادمة»، وألف مبروك لبانوراما البرشا، وتحية كبيرة لصديقتىَّ تريزا ويوستينا سمير، اللتين أسستا الفرقة وقادتاها عبر سنوات طوال فى وسط صعوبات جمة.

قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك

نقلا عن المصرى اليوم