طارق الشناوى

 هل كان مشهد تكريم جورج لوكاس، صاحب سلسلة (حرب النجوم)، فى ختام مهرجان (كان 77)، بجائزة سعفة (كان) الفخرية، معدًا سلفًا، حيث يصعد فرانسيس فورد كوبولا، المخرج الأسطورى، ويسلمه تلك الجائزة فى حفل الختام؟.

 
 
أتصور أن تكريم لوكاس فقط كان هو القرار، بما حققه من إنجاز، ولكن من يسلمه الجائزة، ربما جاء بعد أن تم الكشف عن جوائز لجنة التحكيم لإدارة المهرجان، ولم يكن من بين الحاصلين عليها، فرانسيس كوبولا، الذى شارك بفيلمه (ميجابوليس) فى المسابقة الرسمية، قطعًا لا يمكن اعتباره الفيلم الأسوأ- كما وصفه البعض- فى تاريخ مخرج استثنائى قدم لنا (الأب الروحى) و(يوم القيامة الآن) و(المحادثة) وغيرها، صار تاريخه ليس فقط مرصعًا بالجوائز، بل متخم بها، إلا أنه لا يزال يحن لتذوق طعم النصر، وهو فى الخامسة والثمانين من العمر، فيلمه الأخير- كما أوضح فى المؤتمر الصحفى- نتاج 40 عامًا من الحلم، أى قرابة نصف عمره وهو يحلم.
 
تقدم به إلى لجنة التحكيم على أمل أن يتوج بـ(سعفة ثالثة)، وأعتقد أن تلك الرغبة الكامنة فى ضمير المبدع يعيشها الجميع، من الكبار، ولكنهم عادة لا يملكون جرأة الإفصاح عنها.
 
 
أتذكر قبل عرض فيلم (معبودة الجماهير)، وفى حوار مذاع بين الموسيقار محمد عبدالوهاب والمطرب عبدالحليم حافظ، عبدالوهاب قدم فى هذا الفيلم قصيدة (لست قلبى) شعر كامل الشناوى، بينما كمال الطويل (بلاش العتاب)، ومحمد الموجى (جبار) و(أحبك)، ومنير مراد (حاجة غريبة).
 
 
كان السؤال المباشر من عبدالوهاب لعبدالحليم: هل نجحت؟، ولكن باقى السؤال الذى لم يبح به مباشرة، نجحت أكثر من الطويل والموجى ومنير؟.
 
 
جاءت إجابة العندليب مطمئنة، فهو استوعب السؤال المضمر، وأكد له (كسرت الدنيا)، ووصل المعنى إلى عبدالوهاب، نجحت أكثر من الطويل الموجى ومنير.
 
أعلم مثلًا من إذاعيين كبار بحجم سامية صادق وآمال فهمى ووجدى الحكيم، أن عبد الوهاب كان دائم السؤال عن آخر ألحانه، وكثافة ترديدها، وحتى قصيدة (أسألك الرحيل) لحنها لنجاة، بعد أن أكمل التسعين، وكان يسأل الإذاعيين، هل الجمهور يطلب الاستماع إلى القصيدة؟، وغالبًا ما يأتى الرد الذى ينتظره بدون أن يسأل مباشرة (الأغنية هى رقم واحد فى طلبات المستمعين).
 
 
 
كوبولا عندما شارك بفيلمه، كان هذا هو قراره الشخصى، أعتقد أن هناك من كان ينصحه بأن يكتفى بالعرض الرسمى خارج التسابق، ولكنه أراد أن تصل الرسالة للجميع، أنه لا يخشى المنافسة!!.
 
مجرد أن تتحرر من الخوف بألا تحقق نفس النجاح السابق، وأنه من الممكن أن يتفوق عليك تلاميذك، أو أن لجنة تحكيم تعلن على الملأ رأيها فى فيلمك، أعتبرها بطولة من المخرج تستحق التوقف كثيرًا عندها.
 
بعد أن شاهدت الفيلم قلت فى تلك المساحة إن التوقع أكثر من الواقع، وهو مأزق كبير نعيشه على كل الأصعدة، ومع كثير من المبدعين، الترقب الزائد (فيه سُم قاتل)، كما أنه هذه المرة مشوب بإحساس كامن تتردد من خلاله كلمات لا نبوح عادة بها، بقدر ما تسكن وجداننا، أن تلك ربما تصبح الترنيمة الأخيرة وبعدها سوف يتوقف عنقود الإبداع أو يغادرنا المبدع للعالم الآخر.
 
هل يشعر الفنان بأن فيلمه مثلًا ليس هو المنتظر، بعد كل الإنجازات التى حققها فى حياته؟.
 
المخرج الكبير صلاح أبوسيف قدم قبل رحيله بعامين فيلم (السيد كاف)، ووجه لى الدعوة، مع الناقد الكبير كمال رمزى، فى عرض محدود جدًا، داخل مبنى (ماسبيرو)، العرض فقط لفريق العمل بالفيلم، وبعد إضاءة النور، لم أعلق سوى بكلمة (مبروك)، طلب منى الأستاذ صلاح أن أوصله إلى منزله بسيارتى الصغيرة (127) فى حى عابدين، كنت أعلم أنه يريد الاستماع إلى رأى، وأنا فى نفس الوقت متحفظ عن التعليق بأكثر من مبروك، قلت له السيارة ليست معى، رغم أنها كانت مركونة فى ميدان التحرير، جاءت إجابته قاطعة إذن نتجول معًا 20 دقيقة حتى عابدين.
 
وفى الطريق تحدثنا فى كل شىء من الأبرة للصاروخ، ما عدا (السيد كاف)، ووصلت الرسالة للأستاذ صلاح ولم يغضب، تقبل الأمر بقدر من المرونة، خاصة أننى لم أسارع بالكتابة، انتظرت عرض الفيلم جماهيريًا وكتبت رأيًا سلبيًا، وفى عام 1995 أتم الأستاذ صلاح عامه الثمانين، وأقيمت فى (المسرح الصغير) احتفالية، ووجه لى الأستاذ صلاح الدعوة لكى أتحدث عن أفلامه، مع كل من الراحلين الكبار فريد شوقى ونادية لطفى ود. رفيق الصبان.
 
وبعدها بعام واحد غادرنا الأستاذ صلاح، الذى كان قد أعلن قبلها اعتزاله، ووضع شرطًا واحدًا للعودة، أن توافق الرقابة على سيناريو كتبه لينين الرملى، تناول البرودة الزوجية، ورحل قبل أن توافق الرقابة، ثم منح السيناريو الضوء الأخضر، مع عشرات من الملاحظات، أسفرت عن فيلم خجول أخرجه ابنه محمد صلاح أبوسيف باسم (النعامة والطاووس).
 
يظل المبدع يرنو للقادم وحتى آخر نفس، ولا أتصور سوى فرانسيس فورد كوبولا حريصًا على أن يقدم فيلمه القادم بعد (ميجابوليس) ليتقدم بها مجددًا لمهرجان (كان)، على أمل أن يحظى بجائزة تبدد هزيمته، التى هدأ منها قليلًا، وإن لم يبددها نهائيًا، تسليمه الجائزة الفخرية للإنجاز لجورج لو كاس، حيث أصبح حضوره على خشبة المسرح معادلًا موضوعيًا لـ(تكريم التكريم)!!.
نقلا عن المصرى اليوم