عاطف بشاى
عاطف بشاى شخصية الطاووس أو «المعجبانى» أو المنبهر بذاته والمتمركز حولها فى تفرد وفخر وسعادة وتعاظم أو ذلك الذى تصفه الكاتبة الكبيرة «سناء البيسى» فى كتابها «مصر يا أولاد» بأنه التطلع الدائم فى مرآة الأنا المحدبة المقعرة بعيون لا تتحرك للنظر فيما حولها لأنها مزروعة خطأ فى تجويف الجمجمة، فمكاشفتها للداخل ومتابعتها ورصدها للداخل وعندما تخرج «لِبَرّة»، فالكلام عن نفسها وإنجازاتها وبطولاتها وتأثيرها وفضلها وحسنها و«أنا لما كنت» و«أنا لما رجعت» و«أنا لما قلت».. وقولها هذا حاسم وقاطع لا يقبل التشاور أو الاختلاف أو الجدل أو النقاش أو التفاوض أو المراجعة. إنه بمثابة القول المأثور، وخلاصة الخلاصة، ومنتهى اليقين، وهى شخصية تعبر عن إحدى الصفات التى أصبحت راسخة وأصيلة فى الإنسان المصرى على مدى العصور، وتتصل بمجموعة لا بأس بها من التعبيرات والأقوال الدارجة والشائعة بين الناس.. فهو «عامل قمع» يتكلم من طراطيف مناخيره، و«شامم نفسه علينا»، وعامل «فرخة بكشك» وعنده «نفخة كدابة» و«عامل زى قنصل الوز» و«شارب كوز نشا» و«واخد فى نفسه قلم».
وشخصية المعجبانى شأنها شأن المشهلاتى والفهلوى والمتطفل، الذين كتبت عنهم فى المقال السابق. تتوسع لتحتوى على مترادفات متعددة وذميمة لسلوكيات بغيضة لصيقة الصلة بخصائص متنوعة من الادعاء ومحاولة إثبات الذات والغرور والغطرسة والتكبر والاستعلاء وفرض التميز والتعبير عن النفوذ والتفرد وعلو الشأن تزخر بها التشبيهات والمصطلحات والصفات والأمثلة الشعبية. ومنه ما رصدته الكاتبة الكبيرة «د. عزة عزت» فى كتابها عن التحولات فى الشخصية المصرية.. ففى إطار الصفات الشعبية تعبيرات دارجة مثل «بحره عالى» و«إيده طايلة» و«مش شوية فى البلد» و«له ضهر» و«مسنود من فوق» و«فى إيده الحل والربط» وفى سياق الرغبة فى الإحساس بالتميز عن الآخرين والزهو والشعور بالعظمة «عامل فيها فلوطة» أو «عايش فى الدور».. (أى متوهم أن ما أصابه من تميز هو واقع دائم).. و«عامل أبوالعريف».. (أى مدعى المعرفة).. ومن أساليب التفاخر والتباهى «ولا أى أى ولا زى زى.. ولا أى قط يتقال له يا مشمش».. و«انت عارف بتكلم مين؟!»، و«ابن بارم ديله» و«جاى من قولة»، (أى من بلد محمد على باشا الكبير ومسقط رأسه- وتُقال فيمَن يدّعون أنهم من علية القوم)، و«مافيش على الحجر غيره».
على أن أسوأ أنماط المعجبانية هم المتحولون من حال إلى حال.. ومن أصول اجتماعية بسيطة أو وضيعة إلى منتمين لطبقات أعلى من الثراء بعد الفقر أو مكانة عالية أو شهرة مفاجئة.. فتحولوا إلى «محدثى نعمة» يفخرون بالجاه والوجاهة والأناقة والتشدق بالأصالة والعراقة والانتماء إلى «أولاد الذوات» أو «الناس الهاى».. وتُقال فى التهكم والسخرية منهم المصطلحات الشعبية «طالع فى المقدر جديد» و«كان فى جرة وطلع برة».. و«فاكر نفسه ابن مين فى مصر» و«الله يرحمه ماشافش الدوش غير فى الطاولة» و«كان بيطرقع صوابع المحشى قبل ما ياكلها» و«سبحان العاطى الوهاب بعد الشبشب والقبقاب».
هذا، وقد احتفت كثيرًا الدراما المصرية فى الأفلام الرومانسية والميلودرامية بشخصية «الطاووس» أو «المعجبانى»، وبدا وكأن صناعها من المؤلفين والمخرجين والمنتجين قد عثروا على ضالتهم المنشودة، فتكرر ظهورها بشكل طاغٍ، وأصبحت نمطًا شائعًا اكتفى فيه كُتاب السيناريو بالمظهر الخارجى المتصل بشكل الأنيق ووسامته البادية وملامحه الآسرة وهمساته الناعمة دون تعمق فى الجوهر أو الرؤية الفكرية وفى أبعاد الشخصية الاجتماعية والنفسية والإنسانية.
وهناك نماذج متعددة لأبطال نجحوا نجاحًا جماهيريًّا مؤثرًا يتصدرهم الفنان الكبير «حسين فهمى»، وكان فيلم «خلى بالك من زوزو»، الذى أصبح بموجبه نجمًا للشباك، يطلقون عليه «الواد التقيل»، وحقق شهرة واسعة وأعجب به الجمهور والمخرجون واحتفى به النقاد.. وعلى مدى ثلاثين عامًا قدم أكثر من مائتى فيلم فى كثير منها كان الفتى الوسيم الأرستقراطى.. لكن من حسن الحظ أن «حسين فهمى» لم يكن مجرد ممثل فى بداية الطريق ولكنه يتحصن بالثقافة العامة.. والثقافة السينمائية المتخصصة، ويستند إلى دراسته الأكاديمية، التى أسهمت إسهامًا فعالًا فى فهم أبعاد وأغوار النفس الإنسانية ومحاولة إكسابها رونقًا وتميزًا فى الأداء والتجسيد، وربما أضاف ما ليس فيها من خلال السيناريو، الذى يجنح إلى المبالغات والمواقف الزاعقة وافتعال المصادفات القدَرية.. وبنهاية السبعينيات وإطلالة الثمانينيات تمرد «حسين فهمى» على «الولد التقيل» وملامح «الدون جوان» الرشيق المفتون بوسامته وقدرته الخارقة على الاستيلاء على قلوب الحسناوات والتلاعب بعواطفهن «المقامر» «الطاووس» «النرجسى» «الأنانى» «الانتهازى» الأرستقراطى المترفع الذى يحصد ثمار أهدافه النفعية الخاصة.. كما رفض أن يستمر فى تيار قصص الحب الرومانسية والميلودراما الزاعقة وأجواء المجتمعات المخملية، فقد أراد تمرده أن يثبت أنه قادر على توظيف أدواته الإبداعية فى تجسيد شخصيات غير نمطية وجديدة ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وتجاوز تكرار الأفلام القديمة ليعبر عن مناطق مختلفة عن المشاعر والأحاسيس خارج الانفعالات المحفوظة المرتبطة بمحدودية الطرح، فبدا أكثر رغبة فى الالتحام بقضايا المجتمع وهموم البشر، ابتداء من روائعه: «انتبهوا أيها السادة» و«موعد على العشاء» و«إنقاذ ما يمكن إنقاذه» و«آه يا بلد» و«العار» و«جرى الوحوش» و«إسكندرية كمان وكمان» و«اللعب مع الكبار».. إلخ.
نقلا عن المصرى اليوم