القمص يوحنا نصيف
    في صيف عام 1992م، وأثناء خدمتي كشمّاس مكرّس بكنيسة مار جرجس سبورتنج، أقامت الكنيسة مؤتمرًا لمدّة أسبوع بعنوان "أسبوع الطِّفل المسيحي"؛ وافتتحه قداسة أبينا المتنيّح البابا شنودة الثالث، بمحاضرة جميلة عن كيف نُعامِل الأطفال؟ وقد أصدَرَ بهذه المناسبة كتابًا بنفس العنوان. وكنتُ ضمن فريق المسؤولين عن الإعداد لهذا الأسبوع، وقد لفَتَ نظرَنا كتابٌ بعنوان "كيف تجعل طفلك اجتماعيًّا؟" فقرّرنا دعوة مؤلِّف الكتاب ليكون مُحاضِرًا عن هذا الموضوع في أحد أيّام المؤتمَر، وبالفِعل تواصلتُ مع الدكتور رسمي عبد الملك رستم مؤلف الكتاب، ودعوته للحضور إلى الإسكندريّة، فلبّى الدعوة بكلّ سرور، وقدّم محاضرة شيّقة حول هذا الموضوع. وكان هذا هو أوّل لقاء لي مع سيادته، وقد لاحظت في ذلك الوقت بشاشته وروحه الجميلة المتواضعة.

    بعد ذلك التقيت به عِدّة مرّات في مؤتمرات للهيئة القبطيّة الإنجيليّة للخدمات الاجتماعيّة، حينما كُنّا نُدعَى للمشاركة في منتدى حوار الثقافات بالهيئة..

    توطّدَت العلاقة بيننا عندما سمح الله في عام 2009م، بانتقالي من الإسكندريّة للخدمة بكنيسة السيّدة العذراء في مدينة شيكاجو، إذ التقيتُ بأبنائه في شيكاجو الدكتورة أماني والأستاذ عماد، وهُما من الخُدّام المتميّزين بالكنيسة، وكان الدكتور رسمي يزورهم سنويًّا. وله علاقة طيّبة جدًّا بكاهن الكنيسة القمّص إسحق بطرس طانيوس (تنيّح عام 2012م)، بل كان مصدر ثقته؛ فكان يوصِّل باليد العديد من الرسائل الشخصيّة منه إلى قداسة البابا شنودة الثالث، نيّح الله نفسيهما في فردوس النعيم.

    في ذلك الوقت كان الدكتور رسمي عُضوًا في المجلس الملّي العام، وتمّ اختياره عُضوًا في لجنة الترشيحات لاختيار البابا الجديد، بعد انتقال البابا شنودة الثالث للأخدار السماويّة. وكانت هذه اللجنة مكوّنة من ثمانية عشر عضوًا نصفهم من الإكليروس ونصفهم من العلمانيّين، وكان يقود اللجنة قائمقام البطريرك نيافة الحبر الجليل الأنبا باخوميوس مطران البحيرة، حفظه الربّ ومَتّعه بموفور الصحّة. وفي صيف عام 2012م عندما حضر الدكتور رسمي في زيارته السنويّة لشيكاجو اطمأننتُ منه على مسار عمليّة الترشيحات، وطريقة العمل داخل اللجنة، فقد كانت مصر تمرّ وقتها بظروف صعبة للغاية، ويوجَد أيضًا في الكنيسة تيّارات عديدة، ولكنّني ارتحتُ جدًّا لمّا عرفت تفاصيل طريقة الإدارة المثاليّة التي كان يقود بها نيافة الأنبا باخوميوس لجنة الترشيحات.. وفي أكتوبر 2012م اتّصل بي الدكتور رسمي خصّيصًا، قبل ساعات من إعلان نيافة الأنبا باخوميوس القائمة النهائيّة للأسماء الخمسة التي قدّمَتْها اللجنة للتصويت، وطمأنني بأنّ كلّ الأمور قد جَرَتْ بسلام، وأنّني سأسمع أخبارًا طيّبة بعد ساعات قليلة، ووقتها لم أستطِع ضبط دموعي من الفرح؛ فهو كان حريصًا على طمأنتي، إذ يعرف مدّى حُبّى للكنيسة وحِرصي على سلامتها، على الرغم من التزامه أيضًا بعدم ذِكر أيّ تفاصيل عن الأسماء، بحسب نظام العمل في اللجنة، والذي وضعه نيافة أنبا باخوميوس، والتزم به الدكتور رسمي تمامًا.. والحقيقة أنّ لجنة الترشيحات بهذا التشكيل -الذي كان يَضُمّ خمسين بالمائة من العلمانيّين- قد أدّت خدمة هائلة للكنيسة، بعيدًا عن أيّ شُبهة مُجاملة لأيّ شخص، بل كانوا مع الإكليروس الموجودين باللجنة يحاولون -بضمير صالح وبروح الصلاة- تقديم أفضل العناصر المُمكِنة، لكي يتمّ اختيار البابا الجديد منها، وقد كان؛ واختار الله قداسة البابا تواضروس الثاني ليكون راعيًا وأبًا ورئيسًا لأساقفة كنيسة الإسكندريّة، حفظ الربّ لنا حياته الغالية.

    لقد كان الدكتور رسمي بالحقيقة شخصيّة أمينة جدًّا في خدمة الكنيسة، ومحلّ ثِقة لكلّ مَن يتعامَل معه. كما أنّه كان بروحه الطيّبة الودودة ناجِحًا في التعامل مع كافّة أطياف الشخصيّات الموجودة في قيادة الكنيسة؛ لذلك كان محبوبًا من الكُلّ، ويكسب الجميع بلُطفِهِ وتواضعِهِ.

    عندما كان يحضر لشيكاجو في فترة الصيف من كلّ عام، كنتُ حريصًا على دعوته للمشاركة في نهضة السيّدة العذراء أثناء صومها المبارك، وكان دائمًا يُمَتِّعنا بكلمة موسوعيّة دسمة عن أمّنا العذراء.

    أيضًا في زياراته لنا بشيكاجو كان دائمًا يُهاديني بأحدث إصداراته من الكتب القيّمة، مع مجموعات أخرى من الهدايا. وفي مرّة أحضَر لي تونية لخدمة القدّاس، لازلتُ أستعملها وأعتزّ بها. وفي مرّة أخرى أحضرَ لي جلابيّة سوداء جميلة، لازلت أتذكّره كلّما لبستها. وكلّها هدايا تُعَبِّر عن محبّته واهتمامه الشخصي الجميل. ولا أنسى أبدًا أنّه سمع مِنّي ذات مرّة أنّي احتفظ بكيس لِبّ في سيارتي للطوارئ، بحسب نصيحة أحد الأصدقاء، إذ أنّ أكْلَ اللبّ يُساعِدني على مقاومة النوم أثناء قيادة السيّارة، بالذّات إذا كنت مُرهقًا أثناء عودتي من الافتقاد في وقت متأخِّر من الليل، مع طول المسافات الموجودة في مناطق خدمتنا.. فوجدتُهُ يُحضِر لي معه من مصر كمّيّة من اللبّ، وقد حدث هذا أكثر من مرّة.. لقد كان الدكتور رسمي حقًّا مدرسة في أسلوبه اللمّاح اللطيف، وفي قدرته على التعبير عن المحبّة بجميع الوسائل!

    تَمَيَّز الدكتور رسمي أيضًا بحلو الكلام، فقد كان فمه يقطر شهدًا، مثلمًا قيل عن عروس النشيد (نش4: 11)، فعلى مدى سنوات طويلة من تبادُل رسائل المحبّة بيننا، كان يُبهِرني بكلمات المُجامَلة الجميلة، التي مهما حاولت الردّ بمثلِها لا أستطيع الوصول لمستواه في البلاغة والرِّقّة والعذوبة. وها هي بعض النماذج من رسائله لي: (أبونا الجميل ذو الصوت الملائكي، الذي أعشقه ويعشقه الملايين – أبونا الغالي والقريب إلى قلبي – شكرًا أيّها الراعي الصالح على اهتمامك بنا – أشكر محبّتك واهتمامك وتعبك رغم كثرة مشغوليّاتك وخدمتك – خالص محبّتي وشكري يا أبانا كاروز المهجر في عصرنا الحديث – كلّ سنة وأنت طيب يا قيثارة الكرازة المرقسيّة من أقصاها إلى أقصاها – نحن نشاهد ونستمتع بصلواتكم وبصوتك المُعَبِّر والمليء بعمق التسبحة يا كروان الكرازة، ربّنا يزيدكم بركة ونعمة – ربّنا يخليك لينا وتُمَتِّعنا بعظاتك المتنوِّعة وألحانك وتسبيحاتك وصوتكم الملائكي – منوّر شاشة CTV يا كروان الكرازة – خالص محبّتي وشُكري على عمق عطائك الأبوي وسِعة صدرك وقوّة احتمالك يا أبونا العالِم والمهموم برسالة الكنيسة وتطويرها، ربّنا يعطيك حكمة فوق ما وهبَكَ من حكمة وبصيرة يا كروان الكرازة – عقبال اليوبيل الذّهبي والماسي واللؤلؤي وإلى منتهى الأعوام أبونا يوحنّا الحبيب، قيثارة الكنيسة المُمتِعة – نستمتع ببركات خدمتك وكلماتك وكتاباتك ورعايتك يا أبانا الغالي على قلوب شعبك في مصر وأمريكا، وجميع قارّات العالم السِّتّ على الأرض – ربّنا يحفظكم في دخولكم وخروجكم ويعينكم على رعاية وكالتك التي أعطاها لك الربّ أيّها الوكيل الأمين الحكيم – أطيب التهانئ أبونا الحبيب الغالي بعيد الرسامة، يجعلك الله دائمًا بركة للكنيسة، وباعِثًا للنهضة الروحيّة، ويمنحك كلّ الحكمة والصحّة والسعادة، ويبارك الربّ في أسرتك الغالية وأبنائك المحظوظين بأبوّتك.)

    بالطبع أنا لا أستحقّ هذه الكلمات الجميلة، ولكنّني فقط وددتُ أن أقدِّم عَيِّنة من رسائل الدكتور رسمي، التي تكشف عن قلبه الفائض بالحُبّ والتشجيع، بينما هو لا ينتظر أيّ مقابل نظير تلك المحبّة العظيمة!

    تَعَرَّضَ الدكتور رسمي في السنوات الأخيرة من حياته للعديد من المشاكل الصحّيّة، ولكنّه لم يَفقِد أبدًا روحه الإيجابيّة، ولا ابتسامته الجميلة؛ ولم يتوقّف عن العمل والإنتاج الغزير، حتّى قُرب الأسابيع الأخيرة قبل انتقاله.

    لم يكُن يَكُفّ عن القراءة والكتابة؛ وكانت مقالاته دائمًا تتميّز بإلقاء الضوء على الجانب الإنساني والتربوي، بالإضافة لاستخلاص الدروس النافعة من أحداث الكتاب المقدّس، والتاريخ القديم، والشخصيّات المُعاصِرة أيضًا.

    الربّ يُنيّح نفسه الغالية في فردوس النعيم، ويسكب تعزيات الروح القدس في قلوب كلّ أسرته ومحبّيه، ويعوّض الكنيسة عنه خيرًا.. ويعطينا أن نقتدي بأمانته ومثابرته وروحه الطيّبة، لكي نكون كلّنا مثمرين لمجد الله وبنيان الكنيسة المقدّسة.

القمص يوحنا نصيف

* الصورة أثناء إحدى زياراتي له، خلال فترة علاجه بشيكاجو.