د.سامح فوزى

هناك فروع دراسية شبه ثابتة للاقتصاد مثل: المالية العامة، الصناعة، الزراعة، التجارة، الخ، ويطالب أهل الثقافة بإضافة الصناعات التراثية والإبداعية إلى فروع الاقتصاد، ويلحون فى كل مناسبة على خبراء الاقتصاد أن ينظروا إلى الثقافة بوصفها مجالا اقتصاديًا إبداعيًا، وليس فقط نشاطًافكريًا أو فنيًا. وهناك اقتصاديات للتنوع الدينى أظن أنه ينبغى وضعها فى الحسبان، والسعى للإفادة منها ليس فقط بوصفها مجالا للنشاط السياحي،ولكن أيضا لأنها تفتح المجال أمام تنمية الصناعات التراثية ذات البصمة المحلية.

 

غدا نحتفل بذكرى زيارة العائلة المقدسة إلى مصر، وما تركته من علامات ومزارات مهمة فى أنحاء البلاد شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، وفى كل محطة حلت بها هناك خصوصية محلية ما يمكن الإفادة منها. وهناك تطوير لمزارات آل البيت، لما لها من قدسية وإلهام خاص لدى قطاعات عريضة من المسلمين، وهناك مشروع التجلى الأعظم بسانت كاترين، تلك البقعة الروحية التى لها عبيرها الخاص عند المؤمنين بالأديان، ومنذ أيام أعلن تطوير مسار خروج بنى إسرائيل من مصر.تشكل هذه المسارات الروحية مساحة ملهمة لكل من يقصدها بدافع إيماني، ويسعى لاستلهام طاقة روحية منها. ومن الواضح أن الدولة تسعى بدأب نحو تطوير والإفادة من التراث الحضارى والديني، والذى يخص المصريين جميعًا سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، وأيضا ترميم المعابد اليهودية، وهو ما يٌعد خطوة مهمة على طريق تعزيز روح التعددية الدينية، التى عٌرفت بها مصر منذ قرون بعيدة. وإن كان تطوير المسارات الروحية يأتى بدافع سياحى فى الغالب، ولا غرو فى ذلك، لكن ينبغى أن يكون هناك إدراك بأن التنوع الدينى يشكل رافدًا اقتصاديا، أساسيًا، يتجاوز مجرد الاهتمام السياحي، ويرتبط بصناعات ثقافية وتراثية لها أهدافها التنموية بعيدة المدى.

 

من ناحية أولى تسهم المسارات الروحية فى تمكين المجتمعات المحلية اقتصاديًا، وتوفر مصدرا مستداما للنشاط الاقتصادى لقطاعات عريضة من السكان سواء الذين يعملون بهذه المسارات، أو المشتغلون بالصناعات التراثية المرتبطة بها، أو العاملون فى مجال السياحة بمعناها الواسع، وهى حالة تندرج تحت لافتة التنمية المستدامة، لأنها لا تخلق فرصا اقتصادية لأجيال حالية، لكنها توفر مصادر دخل مستدام لأجيال قادمة. ويؤدى تمكين المجتمعات إلى تطويرها اقتصاديًا، والحد من الهجرة منها إلى المدن بحثًا عن فرص للرزق، ويمنع العشوائية فى البناء والتوسع العمرانى الذى يرتبط بغياب المعنى الثقافي، وينعم السكان أنفسهم بهوية محلية شكلتها الخصوصية الثقافية التى يتسم بها مجتمعهم المحلي.

 

ومن ناحية ثانية تسهم المسارات الروحية فى إيجاد مصادر دخل للاقتصاد بخلاف المصادر التقليدية، فهى ليست مزارات سياحية بالمعنى الحرفي، رغم أنه ينظر إليها كذلك، لكنها مصدر إلهام روحى له جمهوره، والذى يؤدى كثافة حضوره إلى تنويع مصادر الدخل، فبدلا من الاعتماد فقط على المصادر المتعارف عليها: قناة السويس، تحويلات المصريين فى الخارج، الصادرات، والسياحة، يأتى مورد جديد يخاطب أهل الوجدان الإيمانى من كل الأديان، وما أكثرهم، وهم رغم كونهم سُياحًا بالمعنى الظاهر، لكن مقصدهم وغايتهم مختلفة. ونظرًا لأن التراث الدينى المصرى متعدد ومتنوع، فقد يشكل فى ذاته مصدرا متعدد الأبعاد للزائر الذى يبحث عن رسالة روحية سوف يزداد الطلب عليها فى ظل التحديات الأخلاقية التى تحاصر العالم.

 

 

ومن ناحية ثالثة يساعد الاهتمام بالمسارات الروحية على تطوير التنمية الثقافية، حيث يعزز ذلك الإنتاج الفني، والمؤتمرات الثقافية والدينية، والمنتجات التراثية والإبداعية، والسياحة البيئية، وغيرها من المجالات التى تسهم فى الاقتصاد القومي، ليس هذا فحسب، بل إنها تطرح إمكانات واسعة لزيادة الموارد الاقتصادية للدولة فى ظل منافسة شرسة. فقد نجد دولا إقليمية تنشط فى مجال السياحة الشاطئية، وتحقق نجاحات عديدة، ودولا أخرى تعتمد على شكل محدد من السياحة الدينية سنويًا، ولكن مصر لديها تنوع هائل فى التراثات الدينية، على نحو يجعل منها كيانا إنسانيا فريدا يضم تراثا ماديا وغير مادى للأديان الثلاثة لا مثيل له فى منطقة الشرق الأوسط، ولا فى أى بقعة أخرى من العالم. وإذا كانت دول المنطقة تسعى إلى تنويع اقتصاداتها فى غضون السنوات القادمة، فإن مصر لديها مقومات متنوعة بالفعل لا تتطلب سوى تنميتها، والإفادة منها. يتطلب الأمر خطة اقتصادية واضحة للإفادة من المسارات الروحية، واهتمامًا من مؤسسات الدولة،وشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، ودعم الصناعات الثقافية والتراثية، وتهيئة المجتمعات المحلية التى تحوى جانبا من هذه المسارات سياحيا وبيئيا، على نحو يجعلها جاذبة للزائرين.

نقلا عن الاهرام