القمص يوحنا نصيف
أودّ أن أشارككم في هذا المقال، بتأمّل بديع للقدّيس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينيّة (347-407م) حول الآية التى نطقها الروح القدس على فم القدّيس بولس الرسول في الرسالة إلى أهل رومية "لا تُشَاكِلُوا هَذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ" (رو12: 2).
+ طالما أنّ شكل هذا الدهر هو زائل ووقتي ولا يمثّل شيئًا، وليس فيه شيءُ سامٍ ولا دائم ولا مستقيم، بل أنّ كلّ شيء فيه هو فانٍ، إذًا إن كنتَ تريد أن تسلك بطريقة صحيحة، فلا تُشاكِل الحياة الحاضرة، لأنّه لا يوجد شيءٌ في هذه الحياة ثابت ودائم. ولهذا فقد استخدم (الرسول) كلمة "شكل" لوصف هذا الدهر. وأيضًا يقول في موضع آخَر "هيئة هذا العالم تزول" (1كو7: 31)... بينما يُعلِن "بالشكل" أن ليس له كيان حقيقي.
+ لأنّه سواء تكلّمتُ عن الغِنى، أو المجد، أو جمال الجسد، أو المُتَع، أو أيّ شيء آخَر من تلك الأمور التي تُعتَبَر كبيرة، فهي فقط شكلٌ وليست حقيقة الشيء، هي عَرَض وقِناع، وليست كيانًا يبقى إلى الأبد.
+ لم يتكلّم هنا عن التغيير الخارجي، بل عن التجديد والتجلّي الذهني، لكي يُظهِر أنّ الشكل يخصّ العالم، بينما فيما يختصّ بالفضيلة، فالأمر لا يتعلّق بالشكل، بل بالصورة الحقيقيّة التي لها جمال طبيعي، دون أن تحتاج للمساحيق الخارجيّة التي تَظهر وفي نفس الوقت تختفي. الواقع إنّ كلّ هذه الأمور تَظهَر أوّلاً ثم تتحلّل.
+ إذًا لو أنّك ألقيت عنك الشكل الذي ينتمي إلى هذا العالم، فستصِل سريعًا إلى الصورة الحقيقيّة. لأنّه لا يوجَد شيءٌ أضعف من الشرّ، ولا شيء يشيخ بسهولة أكثر من الشرّ... ولأنّ الناس بَشَرٌ، وبسبب طبيعتهم فهُم مُعرّضون أن يُخطِئوا كلّ يوم، فإنّه (الرسول) يُعزّي المستمع قائلاً له:
جدّد نفسك كلّ يوم.
+ ولأنّنا نمارس التجديد داخل بيوتنا، حيث نُصلِح دائمًا ما أصابَهُ القِدَم، فهذا عينه اصنعْه في نفسِك. هل أخطأتَ اليوم؟ هل أصابت الشيخوخة نفسك؟ لا تيأس، ولا تفقد شجاعتك، بل جدّد نفسك بالتوبة، بالدموع، بالاعتراف وفِعل الخير، ولا تتوقّف أبدًا عن فِعل ذلك.
+ إنّكم تقدرون أن تتجدّدوا إن عرفتم أين هي منفعتكم، وبالأولى ما هي إرادة الله الصالحة المرضيّة.. هناك مَن لا يعرف ما هو الصالح بالنسبة له، وما هي إرادة الله؟ أولئك الذين يتأثّرون بالأشياء الحاضرة، ويعتقدون أنّ الثراء يجعلهم متميّزين ويحتقرون الفقراء.. ويسعون نحو السُّلطة، ويسلّمون أنفسهم للمجد العالمي.. ويؤمنون أنّهم عظماء.. ويبنون منازل فاخرة، ويشترون قبورًا فخمة.. هؤلاء يجهلون أين هي مصالحهم.. الله يريد تلك الأمور التي لمصلحتنا، وما يريده يحقّق لنا الفائدة.. أن نحيا باتضاعٍ، باحتقارٍ للمجد الباطل.. ليس باللهو واللعب، بل بالصلاة والسلوك باستقامة..
+ قبل كلّ شيء، يجب أن يكون حكمنا على الأمور واضحًا. فحتّى وإن كُنّا لا نمارس الفضيلة بعد، لكن يجب أن نمتدح الفضيلة، وإن كُنّا لا نتجنّب الشرّ إلاّ أنّه من الواجب أن ندين الشرّ.. وهكذا إذ نتقدّم رويدًا رويدًا، سيُمكننا أن نصِل إلى الأعمال..
[عن تفسير رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل روميه - العظة 21 - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - الترجمة عن اليونانيّة للمتنيّح الدكتور سعيد حكيم يعقوب]
القمص يوحنا نصيف