القمص اثناسيوس فهمي جورج
أهمية كتابة أدب الرحلات في الكنيسة الأولى أتت لتكشف عن طبيعة ثروات نفوسنا، وعبقرية الزمان والمكان التي حوّلت مواقع الرحلات؛ وجعلتها وكأنها مدن حصينة أكثر ضمانة من الأسوار السميكة، حتى ولو كانت من الماس البلوري ... صخور شامخة تنطق بالعظمة؛ وجبال مرتفعة محمية بحصون وفيرة بالأخبار والأعمال والانجازات التي صنعت التاريخ، وأعطت له معنًى؛ وكمَدَائن نموذجية مفتوحة على المدينة السماوية العليا. أبطال قصصها صاروا زملاء الملائكة المختارين لأعمال الأبدية، وكان نورهم كنور الشمس سبعة أضعاف.
ولعل أشهر ما كُتب في كتابات الكنيسة الاولي عن " فن أدب الرحلات " ، كان عن الحاجة ”المقدسة“ الناسكة ”إيجيريا“ أو ”إيثيريا“ أو ”إيهيريا“ أو ”تشيريا“ التي سجلت حضورها للمواقع المقدسة، وزياراتها وصلواتها وذكرياتها (كودكس) البيبلية الإنجيلية، ناقلة لأحوال رحلتها باللغة اللاتينية ( ٣٨٤ م ) ؛ وكأنها يوتيوب مدهش (مصور ومكتوب ) ؛ عن مواضع شهيرة بلغت شهرتها البقاع كلها. تسجيلاً ووصفًا أثريًا وكتابيًا وتاريخيًا وطبوغرافيًا وطقسيًا وليتورجيًا، جعل مخطوط الرحلة ، وثيقة هامة حول ينابيع الحياة المسيحية اليومية في : مواضعها وصلواتها وقراءاتها وسهراتها وشروحاتها وألحانها ومواعظها وطقوسها المختارة؛ وتوافُقها ( جغرافيا ) مع موضع وامكنة مناسباتها، واحتفالاتها الليتورجية الاورشليمية المألوفة، في رتبها الزمنية
( تاريخيا وزمنيا ) ، وايضا الطقوس الشعبية بتراثها الثمين وكل مجريات مسار الرحالة ؛ حيث أن مُدة رحلة هذه الزيارة استغرقت قرابة ثلاث سنوات كاملة. رأت فيها ( ايجيريا ) أمجادًا لم تكن هي مستحقة لزيارتها - حسب روايتها - ؛ فيها تقابلت مع رهبان أسمتهم بالمعترفين؛ بسبب جهادهم الدائم للاعتراف الحسن بالإيمان؛ وقت الاضطهاد الأريوسي.
كذلك وصفت وصولها والطرق التي اجتازتها ، وعدم استحقاقها لهذه النعم التي ذكرت هي عظمتها ، وانها ليست اهلا ان تجوب كل مساكن القدير ، وتتزود ببركات الزهاد واديار الرهبان والراهبات ، بما فيها محطات الصوامع والمناسك ومواقع كل مايمت بصلة للاسفار المقدسة ، وما وجدته من البركات و موائد الأغابي η αγάπη ، وفضيلة ضيافة الغرباء ، ومقادس العلي بروحانياتها وجماليات أوانيها ومصابيحها وقناديلها وشموعها وستورها.. وكيف كانت دروس طالبو المعمودية φωτιξμενοι في مدرسة الموعوظين ، لتثقيفهم وتسليمهم قانون الإيمان Το συμβολον خاصة في ازمنة الصوم الكبير νεστεια وفصح القيامة ανάστασις ، واحراءات طقوس سر μυστήριον المعمودية والبصخات το Πάσχα والخماسين المقدسة Paschaltide ( خمسين عنصرة = Πεντηκοστή ) ، والدورات والقراءات περικοπη والتسبيحات η ψαλμωδία . فما أروع ما ذكرته الكاتبة التقية ايجيريا ، مشيرة إلى وجود خدمة الترجمة للدروس والطقوس ταξις ؛ حتى يتسنى للزائرين والموعظين فَهْم ما يتم تلقينه وتسليمه، بلغات عدة أهمها : اليونانية واللاتينية والسريانية، من خلال كهنة متخصصين في أعمال الترجمة.
إنها رحلة توثيقية أدبية شيقة؛ وصفت مسيرة تتبع لحركة الوحي الإلهي؛ ولاحداث الكتاب المقدس ، موقعة في مكان كل حدث ، عبر تذكارات زمنية ومكانية لمواضع التقديس؛ من أجل الاقتداء والمعاينة ونوال البركة والتماس بركة سيرة الابرار αναστροφή . انها حقا رحلة مثيرة للإعجاب والشجاعة الغيورة الملتهبة بنار الرغبة الدؤوبة ؛ للتقرب إلى النعم السماوية، التي سعت إليها الطوباوية (إيجيريا) بإمكانيات واستعداد قلب جرﻱء، تحت قيادة الرب والهام روحه القدوس ، حتى وصلت إلى الأماكن المقدسة والمواضع التي صنعت التاريخ الإلهي واحداث الخلاص σωτηριο ، منجذبة لمواقع تجسد ومعمودية وتجربة وتجلي μεταμορφωσις وآلالام وجلجثة Γολγοθα وقيامة αναστασιμα وصعود الرب وحلول روحه القدوس.. وأيضًا قامت بزيارة أماكن الوحي والنبوة ؛ ومحطات عيش أنبياء العتيقة.. كذلك سجلت في رحلتها بركة أجساد القديسين والشهداء الذين بلا حصر ، باحثة عن الفضائل التي عاشوها و كانت سببًا في تكريمهم.
رصدت أيضًا ايجيريا في رحلتها كيف كانت زياراتها لجميع الأماكن العطرة التي أشارت إليها الأسفار المقدسة؛ مهما كانت نائية ووعرة ، إذ لم يعوقها ضعف أنوثتها.. وقد زارت بإشتياق حار الأديرة والكنائس البهية التي لمجامع شركة الرهبان وصوامع (مَغَاير) المتوحدين، واصفة صلواتهم وغذاءهم الروحاني؛ وبساطتهم وحكمتهم وضيافتهم الحلوة، وكيف تكرموا عليها بهداياهم الأولوجية التي اعتادوا إعطاءها للزوار.
لقد صارت هذه الزيارة مقطوعة أدبية ؛ تضم أزكى وأعظم الأماكن الروحانية التي لمراحل خروج بني إسرائيل من مصر ومواضع مرورهم؛ حسب تتابع الأسفار المقدسة، ومزايا كل موضع وَطِئَتْه قدماها، حيث جمال الله المفعم بالأفراح النبوية، وبأرواح الآباء التي رفعتها بمعرفة؛ وجعلتها تطير في مسيرة سيرها دون كلل، مسنودة على يد الرب؛ حتى بلغت قممًا شاهقة لجبال التجربة والتطوبيات والتجلي والصعود.
كذلك لم تكتفِ مدونة إيجيريا بذكر أوصاف مكانية وزمنية، لكنها سجلت أوصاف الحياة الكنسية الليتورجية ، والدورات الاحتفالية Procession في القرون الأربعة الأولى، حيث رصدت معاينتها لمدة ثلاث سنوات للطقوس المتبعة في كنيسة أورشليم.. فجاء تسجيلها كتسجيل أدبي بغرض روحي، ساهم في تحقيق وتوثيق حقائق الإيمان المذكورة في العهدين، وبرهانًا عمليًا على صحة أحداث الكتاب المقدس. توصيفًا للأماكن والأحداث والأخبار القيمة عن أحوال المسيحية ونموها ؛ ونشاطات حياة الرهبنة في ذلك الزمان.. فعندما كانت تتوقف في إحدى محطات الأحداث الكتابية مع مرافقيها؛ كانوا يصلون معًا ويقرأون فصل الكتاب الذﻱ تكلم عما حدث في ذلك الموضع . حيث يحتفلون بالليتورجيا λειτουργία والتماجيد δοξολογία في كنيسة كل مكان.
لذلك أصبحت هذه الرحلة وثيقة أولية لشكل الليتورجيا العام؛ ووصف روعة مناسباتها ومواكبها الطقسية. فجاءت كتابتها أسمَى من مجرد كونها ذكريات، لكنها تسجيل مفعم بالمفاهيم والمدلولات اللاهوتية، التي تُبرز إكمال خطة الله ومقاصده الكلية للفداء والخلاص؛ كحقيقة يقينية ملموسة، وكواقع مقدس ممتد لعمله من أجلنا، من جيل إلى جيل وإلى دهر الدهور.
لقد صارت هذه الرحلة دليلاً لأدب الرحلات في المسيحية الأولى. ولقد تحولت الحاجة ايجيريا الاسبانية الجنس من غنية تقية تعشق الجمال الالهي ، لتحظي بالاكليل Ο Στέφανος ، الي زائرة ، بل و الي مرشدة وعلامة في كتابة ادب الزيارات والرحلات القدسية ، رصدت بروحها وقلبها وقلمها قصة ارتحال ملكوتي لا يتجزأ عن رحلة الوحي في العتيقة والعهد الجديد،.