القمص يوحنا نصيف
    عندما كان الربّ يسوع المسيح يتحدّث عن مجيئه الثاني، أشار في كلامه لأهمّية الانتباه لخلاص النفس، وفقال: "مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا. أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يَكُونُ اثْنَانِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدٍ، فَيُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ. تَكُونُ اثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ مَعًا، فَتُؤْخَذُ الْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ الأُخْرَى. يَكُونُ اثْنَانِ فِي الْحَقْلِ، فَيُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ. فَأَجَابوا وَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ يَارَبُّ؟» فَقَالَ لَهُمْ: حَيْثُ تَكُونُ الْجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ" (لو17: 33-37).

    يُعَلِّق القدّيس كيرلّس الكبير على هذه الكلمات، قائلاً:
    + يقول الكتاب المقدَّس في موضعٍ ما: "هَيِّئ أعمالك قبل رحيلك، واجعل نفسك مُستَعِدّة.." (أم24: 17 سبعينيّة). وأنا أعتقد أنّ المقصود برحيلِنا، هو خروجنا من هذا العالم، وانتقالِنا من هنا. وبالطبع لابد أن تلحَق هذه الساعةُ كلَّ إنسانٍ، لأنّه كما يقول المرنّم: "إيّ إنسانٍ يَحيا ولا يرى الموت، ومَن يستطيع أن يُنَجِّي نفسه من يد الهاوية؟" (مز88: 48 سبعينيّة).

    + طبيعة الإنسان قد أدِينَت في آدَم، وسقطَتْ في الانحلال، لأنّه تعدَّى الوصيّة التي أُعطِيَت له. أمّا أولئك المُهمِلون والمزدَرون فإنّهم يعيشون حياة مُخزِية ومُحِبّة للّذّة، وهُم لا يُعطون ذهنَهم فرصة للتفكير في العالم الآتي، ولا في الرجاء المُعَدّ للقدّيسين، كما أنّهم لا يشعرون بأيّ انزعاج من العذاب المُعَدّ لِمَن يُحِبُّون الشرّ.

    + أمّا الذين يعيشون حياةً فاضِلة، فإنّهم يفرحون بالأتعاب لأجل الاستقامة، كما لو كانوا يتركون شهوة السعي وراء الأرضيّات، ولا يُعطون سوى انتباهًا قليلاً للضجيج الباطِل الذي لهذا العالم. يدعونا المُخَلِّص أن نتمسّك بهذا الهدف الممتاز، وبالاجتهاد المُناسِب له..

    + كلّ مَن هُم مُعتادون على العيش في بذخٍ، يَلزمهم أن يمتنعوا تمامًا عن مثل هذا الكبرياء، وأن يجتهدوا بكلّ استعدادٍ لكي يُخَلِّصوا أنفسهم، وبالمِثل على مَن هُم كادِحون ويُقَدِّرون الجهاد النافع، يَلزمهم أن يتمسّكوا بشجاعة بالهدف الموضوع أمامهم، لأنّ "مَن طلَبَ أن يُخَلِّص نفسه يهلكها، ومَن أهلكها يحفظها حيّة" (لو17: 33).

    + أمّا عن الطريقة التي يُهلِك بها الإنسان نفسَه لكي ما يخلّصها، وكيف أنّ مَن يتصوَّر أنّه يُخَلِّصها يُهلِكُها، فهذا يُبَيِّنه بولس بوضوح عندما يقول عن القدّيسين: "الذين هُم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل5: 24). لأنّ الذين قد صاروا تابعين حقيقيّين للمسيح مخلِّصنا جميعًا، يَصلِبون جسدهم ويُمِيتونه، وذلك بانشغالهم دائمًا في أتعابٍ وجهادات لأجل التقوى، وبإماتتهم شهوة الجسد الطبيعيّة، لأنّه مكتوبٌ "أميتوا أعضاءكم التي على الأرض؛ الزنا النجاسة الهَوَى الشهوة الرديّة الطمع" (كو3: 5).. "لأنّ مَن يزرع لجسده، فمِنَ الجسد يحصد فسادًا" (غل6: 😎.

    + ليس كلّ مَن يمتلِكون ثروةً، ويحيون في راحة هذا العالَم، هم أشرارٌ وقُساة القلب. فلو أنّ إنسانًا كان غنيًّا، لكنّه رحوم ولطيف، وليس خاليًا من الشفقة الممدوحة على الفقراء؛ وإن كان مُستعِدًّا أن يُشرِك الآخَرين في ثروته، وهو لطيف المَعشَر، وسخيّ ورزين العقل، ومستقيم الإيمان، وله غيرة حارّة للتقوى، وإن كان أيضًا -بحسب تعبير المُخَلِّص- يَعمَل أصدقاء لنفسِهِ باستخدام مال الظلم، فمثل هذا الإنسان يؤخَذ [للملكوت]، بينما يُترَك الآخَر، الذي لم يكُن اهتمامه هكذا.

    + يقول أنّه عندما تنكشِف جثّة مائتة، فإنّ الطيور الجارحة تجتمع حولها، كذلك عندما يظهر ابن الإنسان. فبالتأكيد فإنّ النسور، حتّى تلك التي تطير في علوّ شاهق، وترتفع أعلى من الأشياء الأرضيّة والدنيويّة، تُسارِع إليه.

    + لذلك، لكيما يأخُذنا المسيح، لنَتَخَلّ عن كلّ هموم أرضيّة، ونكرِّس أنفسنا لكلّ أنواع العمل الصالح. لأنّه سوف يقبلنا ويجعلنا خاصّته، ويُكَلِّلنا بكرامات من الأعالي.

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 118) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف