محمد يونس
(( لقد جعلني اللة ذئبا فأكلت الحملان ..و لو خلقني حملا لكانت الذئاب قد إفترستني ..هكذا خلقت الدنيا فهل هذا خطئي أنا ؟ و الأن أيها الفرسان ترونني قد أصبحت عجوزا ذئب أجرب يتخفي .. لقد تقوس الخشب .. و تفككت الرباطات و تدفق الماء و وهنت المضخات و إنحدر بي الحال لأعيش فوق اليابسة بالصفات الحميدة أصبحت أدميا ..لماذا؟ لأنني لم أعد قادرعلي أن أفعل شيئا )) .
 
الصديق الثالث كان مدرسا .. رفع قيثارته من فوق كتفه و قال ((طول حياتي كنت أتكلم و الأن يضايقني الكلام .. أنت تريد الجواب علي أسئلتك .. حسن سوف يكون لك ما تريد سوف أجيبك بقيثارتي .))
 
كانت السماء قد أظلمت و بدأت حبات المطر تتجمع فوق أوراق الشجرة .. كما بدأ بعضها يداعب خذ العجوز و جبينه وشفتيه فيمتصها
أمسك المدرس بقيثارته و أنحني بالقوس فوقها فأصبح معهما كلا لا ينفصل .... و بدأ القوس يرقص فوق الأوتار و الأجراس الصغيرة ترن .. و أمتلأ الفناء بالضحكات البهيجة .... وظل القوس يقفز و يضحك و يرقص و أصبحت قلوب الكبار أطفالا و طيورا و جداول تترقرق .
و احس الجد العجوز كما لو كان جسدة الثقيل يفقد وزنه ..و يرتفع في الهواء و يسبح كالسحابة طائرا فوق شجرة الليمون و أشجار السرو كما لم يحدث له إلا في الأحلام .
 
ولكن صوت القيثارة ما لبث أن تغير و أصبح ضاريا غاضبا و بدأت أجراس القوس ترن ..كهذه الأجراس التي تعلق بعنق صقر ..مدرب و هو ينطلق في الهواء بحثا عن فريسة .
 
و كان الصوت خلال الجو الندى الرطب أشبه بطنين النحل أو خرير جدول عميق أو صوت حزين لإمرأة عاشقة يتناهي من خلف الجبل .. أو صوت البحر ذاته و مياهه تصطدم بالشواطيء .
 
و ظل المدرس يعزف كالممسوس حتي بدا كما لو أن القوس ستصدر عن أوتاره شرارا و بدا أنه يغيب أكثر و أكثر وسط الظلام .
 
إكتسيت شفتا الجد العجوز بإبتسامة عريضة و هب جسده الخفيف الطائر في وثبة واحده من تحت شجرة الليمون إلي أعلي سابحا في الهواء ليحوم كالسحاب فوق البيت .
 
و أحس الجد في أعماقة أن الموت قد أقبل(( إنه الموت و هذه هي الجنة .. أنا ماض إلي الجنة .. بل لقد أصبحت داخلها )) .
و فتح عينيه و لم ير سوى الظلام .. و لكن صوتا ناعما ناداه .. فأجابه (( أنا قادم إليك .. ))
 
و توفي الجد غادر الحياة مبتسما .. و هو في جنته .. الطبيعة و المطر و الموسيقي و الأصدقاء و العائلة.. ترى هل عرف إجابة سؤاله !!
 
بعد هذا المشهد البارع الكتابة  .. عن فلاح كريتي ثرى يرقد بين الأبناء و الأحفاد .. و أخر كرس حياته للكفاح ضد الظلمة من الحكام المستعمرين .. و أخر كان لص و قرصان و يرى أن الله يخلق الحياة هكذا ذئاب و حملان .. و رابع مبدع فنان قادر علي التعبير بموسيقاه عن كل مشاهد الوجود من حب و حزن و خوف و سعادة .. و غضب .. و رضا .. أجد أن ما ينطبق علي حياتي من بينهم هو ما قاله المناضل .. ((نعم لقد ولدنا عبيدا )).. فهل عملنا كي نصبح أحرارا ..أم إستسلمنا للذئاب تنهشنا نهشا . 
 
حسن فإستمعوا إلي إذن .. لقد بلغت من العمر ما تجاوز الثمانين عاما و أنتم جميعا تشهدون بأنني حاربت و كتبت روايات و مقالات .. و دراسات ..وأبدعت فنا قدر جهدى و موهبتي ..و عملت و بنيت و أنشأت .. و بأنني سعدت و حزنت و بأنني أديت واجبي كرجل و ها قد إقتربت ساعتي .. و لم أحقق بحياتي الطويلة أى هدف أو أقدم أى إنجاز ..
 
الظلم كان و لا زال يتربع علي العرش مرتديا حلته العسكرية و الأمنية .. و الأموال تسربت و تتسرب إلي خزائن السماسرة و النصابين و الغشاشين من الضوارى .... و الناس لازالوا علي حالهم حملان فقدوا إرادتهم و يستمعون في بله لإستعراضات الجونه و الساحل .. و مصايب إتحاد الكرة ..و تعادلات النادى الأهلي التي ستضيع عليه الدورى  رغم إنفاق ملايين الجنيهات سدى ..
 
 يسعون من أجل توفير لقمة عيش ضنينة غافلين عما يحيط بهم من مخاطر تعويم الجنية و زيادة الديون ..و إسراف الأغنياء ... و مهما صحت ( ولقد صحت كثيرا ) تختفي صيحاتي فور خروجها دون دوام ..
 
حرية الانسان لا تٌمنح..إنما تتفجر من الداخل .. عندما يشك .. يرفض .. يطوف علي كل المواني .. يلهوغير هيابا بين الغام المنع..يسبح عكس التيار .. لا يأبه لانياب القرش و لا لنظرات الاخطبوطات .. و لا لاوهام التابوهات
 
الحرية يزاولها البشرى المكتمل النمو المالك لادوات المعرفة .. المستعد لدفع الثمن.. غير المنتمي لجوقة الكورال السلفي.. او لشلة المنتفعين ،غير المستسلم لعذابات الاحتياج .. أو لضلالات العواطف أو للخوف من المجهول ،او لسيطرة العادة أو لاسلوب الحرص في الرهان علي المضمون.
 
الحرية في النهاية هي الابداع الذى يتمثل في قدرة العقل البشرى علي تخطي الحدود المعتادة .. وكسر المألوف.. و الابحار في محيطات مجهولة لم يكن يجروء من سبقوه علي الاقتراب منها... 
 
خسارتك يا مصر.. حزين علي حال ناسك .