خالد منتصر
المفكر العظيم سلامة موسى هو رائد التنوير المظلوم فى مصر؟، ظلمناه حيا وميتا، ظلمناه حيا بالهجوم البشع وتهم التكفير والخيانة، وظلمناه ميتا بالإهمال والتجاهل، وبمناسبة اقتراب مائة سنة على صدور كتاب: نظرية التطور وأصل الانسان الذى صدر عام ١٩٢٥، والذى لن يحتفل أو يحتفى به أحد، رغم أهمية الكتاب وكاتبه، لذلك قررت الكتابة عن سلامة موسى فى عدة حلقات، حتى أسترد للرجل جزءا من حقه المهدر، كقامة تنويرية وفكرية لا تقل تأثيرا عن طه حسين أو أحمد لطفى السيد أو العقاد، فهو قد أحدث كمفكر حراكا هائلا بصدماته للعقول المغيبة، وكانت مطرقته ازعاجا لكل الكسالى فكريا والمحنطين ذهنيا داخل متاحف الماضى والتراث المتكلس .
سوف يعرف الناس يوما ما أنه قد عاش فى مصر رجل بلا خوف ولا طمع فى ثروة دنيوية، بل حياة نبيلة طاهرة تعيش للحقيقة .. لم أجد أصدق من تلك الكلمات التى كتبها مستشرق مجرى عن المفكر الكبير سلامة موسى لأقدمه بها، ذلك الرجل الذى لم أجد شخصا أفضل منه تنطبق عليه مقولة: لا كرامة لنبى فى وطنه وزامر الحى لا يطرب!، فقد ظل الرجل طيلة عمره شخصا غير مرغوب فيه منبوذا متهما بأبشع التهم، ومطرودا من جنة الاحتفاء والاحتفال حتى بعد وفاته، ورغم أنه واظب على إيقاظنا بالتزمير فى عقولنا الناعسة فإن آذاننا كان قد أصابها الصمم بشمع الخرافة فلم يوقظنا سلامة ولم يطربنا قديس الحقيقة!.
ولد سلامة موسى فى كفر سليمان العفى بالزقازيق محافظة الشرقية عام 1887، والقرية تنتمى بالاسم لعائلته القبطية التى نزحت أصولها البعيدة من الصعيد، ورغم أن الأسرة كانت تملك أكثر من مائة فدان من الأراضى الخصبة فإن الأب لم يركن إلى صفة مالك الأرض وفضل دفء الوظيفة، حيث كان يعمل رئيس تحريرات مديرية الشرقية أو ما يشبه الآن سكرتير عام المحافظة، وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية التحق بالمرحلة الثانوية عام 1903 بعد انتقاله للقاهرة حيث التحق بمدرسة التوفيقية ثم الخديوية، إلا أن مرحلة الكتاتيب الأولى فى قريته والتى أمضى فيها وقتا طويلا ليتعلم الإنجيل والقرآن انتظارا حتى تفتح مدرسة ابتدائية فى الزقازيق قد أسهمت بشكل كبير فى تشكيل عقله ووجدانه وجعله أكثر تسامحا ومرونة فى قبول اختلاف الآخر، وأرحب صدرا فى التعامل مع الأديان بشكل يخاصم التزمت، وعن فترة الطفولة المتسامحة يقول سلامة موسى: كان خادمنا عطية يحملنى إلى ضريح ولى مسلم يدعى «أبو عامر» وكان يشترى الشمع ويتصدق بقروش ويدور بى حول الضريح ويتمسح به ويقرأ الفاتحة جملة مرات وأنا على عاتقه، وقد ذهبنا معا إلى كتاب مسيحى ثم كتاب إسلامى ثم عدت إلى كتاب مسيحى وخرجت من هذه الكتاتيب الثلاثة بعد ثلاث أو أربع سنوات وأنا لا أحسن قراءة سطر، وإنما أحفظ عن ظهر قلب بعض الصلوات المسيحية وبعض سور القرآن، وقد جعله هذا التنوع منذ طفولته مؤمنا وليس درويشا، متدينا بالمعنى الواسع للكلمة وليس بالمعنى الطقسى الشكلى لها، هذا بالرغم من أن أسهل التهم التى طالته هى الإلحاد الذى صار بعد ذلك السهم المسموم الجاهز للتنشين على كل من يحاول استخدام عقله فى هذا الوطن، ولنستمع إلى الود الذى يتحدث به عن المسيحية فهو يقول: من الأخطاء الصغيرة الخطيرة التى ارتكبها المترجمون للإنجيل أنهم يذكرون الله على لسان المسيح بكلمة أبي، ولكن الحقيقة أن المسيح كان يسمى الله باسم أبا أى بابا، وهى كلمة التحبب والدلال،كلمة الأطفال، وذلك لإحساسه العميق الحميم بأبوة الله أبوة حقيقية، ومن هذه البؤرة العاطفية تشع سائر عواطفه بالتحيز للفقراء والمساكين، وفى الإحساس بأن البشر جميعهم عائلته لأن بابا لا ينسى واحدا منهم، ويقول أيضا: إنى أومن بالمسيحية والإسلام واليهودية، وأحب المسيح، وأعجب بمحمد،وأستنير بموسى، وأتأمل بولس، وأهفو إلى بوذا، وأحس أن كل هؤلاء أقربائى فى الروح،أحيا معهم على تفاهم، وأستلهم منهم المروءة والحق والرحمة والشرف.
بهذا المعنى الواسع للتدين والإيمان استقبل سلامة موسى العالم ويلخص هذا المعنى فيقول: إن بؤرة إيمانى هى الإنسانية بمن تحوى من فلاسفة وأنبياء وأدباء، وبما تحوى من شجاعة وذكاء ومروءة ورحمة وجمال وشرف، وأعتقد أن سلامة موسى بهذا التعريف قد اختار أن يستظل بأوسع مظلة إيمانية متعددة الألوان فى الكون، ولم يفهم الناس وقتها أن غضب سلامة موسى ليس غضبا من الدين ولكنه غضب من كهنة الدين والمتاجرين به ممن يعطلون العقل تحت مظلة المعتقدات الثابتة ويمنعون التجديد بحجة ومبرر أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، ولكى نفهم منطقه فى الفصل ما بين الدين واستغلال البشر للدين فلنقرأ واحدا من أهم كتبه وهو كتاب «حرية الفكر وأبطالها فى التاريخ» الذى يقول فيه: إن الدين فى ذاته لا يمكنه أن يضطهد العلم وإنما الاضطهاد يرجع إلى الكهنة، ولكن الكهنة أنفسهم لا يمكنهم أن يضطهدوا أحدا مالم تكن السلطة فى أيديهم، فالذى يقيد حركة الفكر والذى اضطهد الناس هو السلطة الحكومية، ومادام الدين بعيدا عن الحكومة فإنه لا هو ولا كهنته يمكنهم أن يضطهدوا أحدا.
نقلا عن الأهرام