عاطف بشاى
نمت فتيات «البرشا» المبدعات.. بنات تلك القرية الصغيرة بمحافظة «المنيا»، والتى ترزح تحت وطأة فقر مدقع فى براثن التطرف البغيض، وفى ظل تراجع حضارى مقيت يحتشد بالموروثات البالية والمسلمات المتدنية، ومن ثم شيوع كراهية التكفيريين للآخر وفرضهم الوصاية على الفضيلة التى تبكى وتنتحب من انحلال الرعية، وبالتالى نبذ المرأة باعتبارها كائنا جنسيا حقيرا، وهى عورة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، تستوجب نار جهنم.
فى خضم ذلك المناخ الكئيب المسموم ظهرت «دميانة نصار» تلك القروية الأمية المجهولة، التى لم يكن بروزها نبتًا عشوائيًا وليد الصدفة، وقعت عليها عين مخرج محترف «عمر الزهيرى»، اختارها لتلعب بطولة فيلمه «ريش» الذى فاز بجائزة النقاد فى مهرجان «كان» وأحدث ضجة كبرى وردود أفعال صاخبة.. وإنما هى ابنة نفس القرية «البرشا» وقد عايشت معاناة رهيبة لمجموعة الشابات لتكوين فريق عمل مسرحى.. وهى والدة «هايدى نصار» إحدى المشاركات فى فيلم «رفعت عينى للسما» الذى حصل على جائزة «العين الذهبية» فى مهرجان «كان».. وقد استطاعت أن تحقق المستحيل ليس فقط فى الحصول على جوائز المهرجان ولكن فى التغيير المجتمعى عبر سنوات من الكفاح المضنى للتصدى للموروثات الكريهة المعادية للمرأة والفنون المختلفة.
جاءت دميانة الأمية المستنيرة بعد عودتها من مهرجان «كان» لتقف فى وجل واستحياء على «الريد كاربت» لتقابل بالاستهجان والسخرية والازدراء من الوجوه المنفوخة «بالبوتكس» و«الفيلر» والأصباغ الغليظة، فنزعت ورقة التوت عن الأردية العارية.. وأقنعة الاستعلاء الأجوف عن الوجوه اللامعة بالزيف؛ لتكشف عن عوراتهم المقيتة.. وعالمهم الملون بالادعاء والقبح والأضواء الآفلة.. ارتدّت السهام المسمومة إلى صدورهم فأدان الجمال الحقيقى القبح المصنوع.. وتألقت البساطة والعفوية بملامحها الفرعونية وروحها الصافية، وانتزعت الإعجاب والحضور والاحترام.
كانوا قد أرادوا لها أن تعلن الاعتذار عن وجودها فى عالمهم المحتشد بالبغضاء والمتخم بالكذب والرياء والنميمة والاغتياب الذى يمارسونه على صفحات التواصل الاجتماعى من أجل «الترند» اللعين.. لكنهم فشلوا فى مسعاهم وبقى الفيلم الذى رفض أن يحمل جمالًا مصنوعًا.. رغم أنف المترفين والمخمليين وأعداء الحقيقة، ليس الفقر ومظاهره البائسة الذى تكشفه المشاهد المتتالية بالفيلم هو المرادف الذميم للقبح كما أشاعوا وزايدوا فى تأفف واستعلاء.. لكن الصدق فى التعبير والنبل فى المقصد والإنسانية فى الطرح والشفافية فى السرد وتدفق المشاعر الحميمة والعمق فى المحتوى هى الجمال بعينه.. وهى معنى الفن الحقيقى فى رسالته السامية وإلا ما عاشت سينما الواقعية الجديدة فى «إيطاليا» بأفلامها العظيمة التى جسدت حياة رجل الشارع بعد الحرب العالمية الثانية، وصورت مشاهدها فى الجراجات والحوارى والأزقة وأطلال المبانى المتهالكة.. وكان أبطالها من غير المحترفين.. وقد تأثر بتلك السينما المخرج الكبير «صلاح أبوسيف» فكانت أفلامه الرائعة «لك يوم يا ظالم» و«الفتوة» و«الوحش» و«بداية ونهاية» و«القاهرة 30».. ولما كان شابلن الصعلوك المتشرد الفقير الذى أثرى الوجدان وأطلق الضحكات فى تراث أفلامه الجميلة.
والحقيقة أن موضوع الجمال والقبح يطرح نفسه تعليقًا على موقف الممثل «شريف منير» الذى اندفع منسحبًا من دار العرض فى مهرجان الجونة الذى يعرض فيلم «ريش»، معربًا عن سخطه من محتوى الفيلم الذى يدور فى منطقة عشوائية، وإبراز حالة الفقر المدقع لبطليه الزوج والزوجة اللذين يعانيان شظف العيش ويقطنان منزلًا متصدعًا قذرًا لا يصلح لحياة آدمية.. مؤكدًا أن هذه رؤية زائفة للواقع، منكرًا أن هناك فقراء فى مصر.. ويؤيده بعض الفنانين.
ثم كانت الصفعة الثانية التى طالت أدعياء الفن النظيف والمظاهر البراقة ونجوم الهلس والمسخرة باسم الكوميديا، والجريمة والبلطجة باسم التراجيديا، والأحداث الفاجعة التى تخاصم العقل باسم «الميلودراما» وبرامج «التوك شو» التى تحفل بنجمة «الهزل المستباح وبطل الأكشن الدموى الجبار» وقصة حبهما الطاغى وزواجهما البهيج وطلاقهما الفاجع.
اقصد بالصفعة الثانية الإنجاز العظيم والنجاح الرائع الذى حققته بطلات «مسرح البرشا» اللائى قدمن عروضهن فى الشوارع الضيقة بالقرية الصغيرة بإمكانيات بالغة التواضع فى مرحلة كفاح مدهشة استمرت سنوات طويلة لا يدعمها سوى الإصرار والأمل الحالم والعزيمة الجبارة والإيمان العميق بقدرة الفن العظيمة على تحقيق ثورة وعى مجتمعى فى عقول تراجعت حضاريًا وإنسانيًا فى غياهب التخلف والغيبيات.. والفيلم الوثائقى الذى فاز بالجائزة يشمل التصدى والتنديد ببشاعة سلوكيات اجتماعية وعنصرية بغيضة، من عنف أسرى وتحرش جنسى وزواج مبكر للفتيات.. ومذابح الختان فى رسالة تنويرية عظيمة تعجز عن تحقيقها مئات المقالات والمناظرات والندوات.
نقلا عن المصرى اليوم