نيفين مسعد
أتاح لي تكريم بنات قرية البرشا بواسطة اللجنة الثقافية في المجلس القومي لحقوق الإنسان أن أراهُن وجهًا لوجه بعد أن كنتُ قد قرأتُ تقريبًا كل ما كُتِب عنهن في الصحف وعبر وسائل التواصل. بنات في منتهى التلقائية والبساطة والانطلاق أيضًا، واضح جدًا الانسجام بينهن من حديثهن مع بعضهن البعض وأيضًا من ضحكاتهن التي كانت تنبعث من الصّف الثالث حيث تجلسن. عندما طلبنا منهن أن يغنين على المسرح قالت العفريتة مارينا سمير وعيناها السوداوان تلمعان ببريق عجيب "يعني أروح أچيب الطبلة؟" قلنا نعم، فانطلقَت كالسهم وعادت بطبلتها. وعلى المسرح راحت بنات فرقة بانوراما البرشا تغنين "أنا چسمي مش خطيّة ولا لبسي ده جضية، مش عارفة امشي بحرية ولا عارفة البس فستان، أنا چسمي مش خطيّة ولا لبسي ده جضية وبتنصروه عليا والمتحرّش چبان والمتحرّش غلطان". كلمات الأغنية تلّخص باختصار شديد معاناة الفتاة المصرية بشكل عام فما بالنا بالصعيد وبالمنيا على وجه الخصوص حيث الدماء في عروق المتشدَدين جاهزة دومًا لتفور، وحيث "هنا البنات أهم حاچة سُمعتها". لم تمكث بنات البرشا بيننا طويلًا لاستكمال احتفالنا بتكريم الأعمال الدرامية الرمضانية المهتمة بقيم حقوق الإنسان، كان لديهن ارتباط سفر إلى الجونة لتكريمهن في سياق آخر، فتسلّمن دروع التكريم من المجلس وانصرفن على عجل.

• • •

رفعَت بنات بانوراما البرشا عيونهن للسماء وصنعن فيلمًا يشبههن تمامًا ويشبه كل بنات الصعيد، "الأفلام عن الصعيد لا تمثلنا لأن الناس مش من الصعيد"، هذا ما قالته مريم نصّار إحدى بطلات الفرقة. رفعن عيونهن للسماء طلبًا للقوة من الرّب ربما، أو تعبيرًا عن أن حلمهن كبير كما هي كبيرة المسافة بين الأرض والسماء ربما، أو لأن في السماء نجومًا تتلألأ وتضيئ على أمل أن تتلألأن وتضئن يومًا مثلها ربما، والأرجح لكل هذه الأسباب مجتمعة نظرَت البنات إلى فوق. حمَلت يوستينا سمير على عاتقها مسئولية تأسيس فرقة من بنات قرية البرشا وأخذتهن جميعًا إلى الشارع ليُسمِعن أهالي القرية أن تعليم البنت حق، واختيار زوجها حق، ورفضها الزواج المبكّر حق، وميراثها حق، وأن البنت زي الولد. على مدار رحلتها واجهَت يوستينا وفرقتها الكثير من التنمّر حتى أن امرأة تهكّمت ذات يوم على صوت مونيكا يوسف بقولها "مساء النور يا راچل انت"، وقاومَن جميعًا محاولات التشويه والتيئيس و"الزعط من الشارع"، واحتملن رشقات الطوب مع أول عرض لهن في الهواء الطلق. خشي الأهالي من جرأة بانوراما البرشا ومن تأثير الفن وقدرته على تغيير الأفكار السائدة مهما كانت هذه الأفكار خاطئة، لكنهن صمدن لأن لهن رسالة. لم تتراجع البنات، ولا هن استجبن لطلب أهل القرية نقل عروضهن إلى داخل الغرف المغلقة، فالفن إشهار وإعلان وتنوير، هل يمكن أن يتّم التنوير في الخفاء؟ النور والظلام ضدّان لا يلتقيان. وأخيرًا أخيرًا جدًا "الموضوع فرَج -أي فرق" كما تقول يوستينا سمير، والفرقة التي بدأَت عملها بـ١٠بنات فقط أخذ عددها يتضاعف بل إن هناك ٦٠ طفلة يجري إعدادهن للالتحاق بالفرقة، فالحلم بالوصول للعالمية تحقّق بالفعل. تتحدّث مؤسِّسَة الفرقة عن تجربة السفر إلى الخارج لأول مرة بعبارات في منتهى الصدق والتلقائية "النجلة -أي النقلة- دي حرفيًا ما كنّاش متصّورين إنها تحصل.. كنّا عاوزين حدّ يفوّجنا -أي يفوّقنا- طيب"، وبالنسبة لها شخصيًا فإنها ظلّت لا تصدّق أنها وصلَت إلى فرنسا إلا عندما وجدَت أن العُملة مختلفة عن العُملَة المصرية وأن تليفونها المحمول لم يعد يعمل، وهنا فقط أيقنت أنها تخطّت الحدود! تمنيتُ وأنا أستمع إلى كلام يوستينا وبطلاتها في برنامج على قناة القاهرة ٢٤ أن آخذهن بالأحضان، فجرعة الصدق والبساطة كانت فوق كل تصوّر.

• • •

تجربة هؤلاء البنات وفرقتهن المسرحية تثبت أن التغيير الثقافي ممكن مهما كانت البيئة المحيطة معادية له، وأن الاستسلام للوضع الراهن هو اختيار فردي وليس قَدَرًا محتومًا. والأهم من ذلك أن هذه التجربة تثبت أن الفن قادر على إحداث التغيير، وهذا الكلام قيل كثيرًا من قبل لكن أتت بانوراما البرشا لتثبت صحته بالدليل القاطع، وعن طريق مَن؟ عن طريق مجموعة من الشابات الصغيرات الموهوبات. وعندما يرى أهل القرية بنات البانوراما وهن يسرن على السجادة الحمراء في كان ويُكرّمن من أحد أهم المهرجانات الدولية على مستوى العالم، ويعرفون أن عشرات المقالات والتحقيقات تحدثّت عن الإنجاز الكبير لهؤلاء البنات وكيف أنهن رفعن رأس مصر وقريتهن عاليًا، فلابد أنهم سيراجعون مواقفهم من قضايا التعليم والزواج والتحرّش، والأرجح أنهم لن "يزعطوا البنات" من الشارع من الآن فصاعدًا. ولذلك فإننا عندما نطالب بإعادة فتح دور السينما والمسرح المغلقة في كل أنحاء مصر، والاهتمام بالجانب الثقافي في تنمية الأطراف وبالذات في الصعيد، وإعادة النظر في دور المراكز الثقافية وفي دور المجلس الأعلى للثقافة نفسه، فإننا نريد أن نتيح لعشرات المواهب أن تتفتح وتغيّر العقول والأفهام. تقول مريم نصّار ما نصّه "القرى دي محرومة من الفن حرفيًا، المخرچين بس ييچوا لنا والبرشا فيها مواهب كَتيرة"، فمتى يأتي إليهم المخرجون ومتى تأتي إليهم الدولة؟
نقلا عن الشروق