خليل فاضل
عندما تلقيت خبر فوز الفيلم المصرى التسجيلى «رَفَعْت عينى للسَمَا»؛ بجائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقى فى مهرجان كان السينمائى، تذكرت فيلم خيرى بشارة التسجيلى «طبيب فى الأرياف» والذى عُرض مؤخرًا فى سينما زاوية، وقمت ببطولته فى قرية تبعد عن قرية البرشا بـ 48 كم، ويقول خيرى: «الإغراء يدفعنى إلى أحلام يقظة، بأنه يمكننى تحقيق فيلم تسجيلى طويل يعتمد على الدراما، أى الأشخاص الحقيقيون يعيدون تمثيل قصصهم الواقعية فى الأماكن الحقيقية».
وهذا تقريبًا ما فعله المخرجان أيمن الأمير وندى رياض، مع فيلم «رَفَعْت عينى للسَمَا»، والذى يتناول قصة فرقة «بانوراما برشا» للفتيات فى صعيد مصر حينما اتخذت مجموعة من الفتيات قرارًا، بتأسيس فرقة مسرحية لعرض أفكار ومواضيع مُستَمَدّة من الفلكلور الشعبى الصعيدى، كالزواج المبكر والعنف الأسرى وتعليم الفتيات، حيث يقومون بعرض المسرحية فى شوارع قريتهنّ الصغيرة بهدف تسليط الضوء على تلك القضايا التى تؤرقهن.
فى «طبيب فى الأرياف» أقول بصوتٍ واضح، فى مقدمة الفيلم قبل العناوين «التترات».. باعتبارها أفضل مدخل للفيلم كله «كما قال بشارة»، وهى ما لخصت إيمانى كطبيب بأنه: «لا يجب أن نمثل دور الابن العاق اللى بيتحمل مَشَاق فى سبيل عمله، ولا يجب أن نلبس مسوح التأله ونبان إن إحنا موفدين من شعب إلى شعب آخر فى مهمه صعبة»، كان هذا من 50 سنة؛ فما أشبه الليلة بالبارحة.
ومن 24 سنة قدمت السيكودراما مُضَفّرة بالسوشيودراما، فى العيادة النفسية، ثم خرجتُ بها إلى الفضاء الرحب مع جمعية «كاريتاس مصر» و«بواحة الأمل» الذى يمثل مكانًا للاستشفاء العلاجى المجتمعى للمدمنين داخل بيئة محمية فى الصحراء، وتقع على الكيلو 72 مصر إسكندرية، وكانت تجربة خاصة جدًا لها طابعها المُتَفرِّد.
فى الدراما اجتماعية أو العلاج بالدراما الاجتماعية Sociodrama، قد يسأل البعض لماذا نزعج أنفسنا بالبحث عن الأسباب الاجتماعية أو نحاول تغييرها بعد رصدها، ما دام الواقع كما هو؟
إن الصعوبات الاجتماعية والضغوط النفسية موجودة طالما كان الإنسان موجودًا، بل وتزيد مع غلظة الحياة وشدّتها وقسوتها، إنها حولنا ومعنا وخلفنا وأمامنا؛ فلنُفتِّش فى البيوت والأزقة والحارات، بل وفى القصور والفِلل، سنجد أحزانًا وأنهارًا من الدموع، وآلامًا تختبئ خلف النوافذ المغلقة فى المناطق الأشد فقرًا فى حزام القاهرة، إن العيش على هذه البسيطة ليس عيشًا فى جنةٍ مفروشة بالورود، حتى لو كنت تملك المال والجاه والسلطة فالهموم الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية تطاردك أينما كنت.
فى الفنون والموسيقى والمسرح والفن التشكيلى، يتسامَى الإنسان ليُضمد آثار طعناتٍ تلقاها ومشاعر مكبوتة، اختزنها مع القسوة والصمت والتعذيب والدمار فى عالم لا يعرف غير الصراعات والنزاعات؛ ومن ثم يصبح سلوك الآخر سواء كان فردًا أو زميل عمل أو حتى دولة مجاورة، هو الجحيم بذاته فإذا جلست فى مصر نظرت حولك وجدت من يقتتلون فى ليبيا، ثم الصمت والاتفاق المبدئى، ثم تبدأ الجريمة وتشتعل فى السودان وفلسطين فى محرقةٍ لحظية أمام عيون العالم.
إن الطريق المؤدى لهذا السلوك أو ذاك دليلٌ دامغ على أن العلاقات الاجتماعية والعلاقات بين مجمل الناس وبعضها البعض وبينك وبين نفسك أمرٌ معقّد للغاية؛ فلا أحد بدون بذرةٍ عفنة، ولا بلد بدونها، وكان نجيب سرور قد قال إن هناك «عفنًا فى الدنمارك»، بينما ترجمها مترجم آخر «هناك فسادًا فى الدنمارك»، عن تراجيديا «هاملت» لشكسبير، وكان طلال فيصل فى كتابه «سرور» قد شرح أن نجيب سرور فسَّر أن العفن يختلف عن الفساد لغويًا وفى المعنى؛ ففى العفن رائحةٌ تنتشر فيما حولها ويسرى فى كل شىءٍ حوله، أما الفساد فمن الممكن أن يكون مختبئًا ومغطى بقشرةٍ صلبة أو بعطرٍ باريسى، وهذا ببساطة ما تصوره السينما بمجمل فنونها خاصةً تلك التسجيلية.
ويُحدد محمد كريم الساعدى فى مجلة الفرجة «أنَّ الغاية التى يهدف إليها مسرح الشارع أن يأتى الجمهور إليه، إذا كان الجمهور فى أماكن بعيدة عن الأماكن، أى قلب اتجاه السير ليكون من المسرح إلى الجمهور بدلاً من الجمهور إلى المسرح، وإن استهداف الجمهور، هو اقتحام المجال الفكرى والنفسى والاجتماعى، من أجل جعل التفكير فى القضية التى يحملها العرض، أكثر تأثيراً فى حالة المفاجئة والدهشة التى يبحث عنها هذا المسرح».
نقلا عن المصري اليوم