القمص يوحنا نصيف
    تقرأ لنا الكنيسة في عشيّة عيد الصعود فصلاً من إنجيل القديس لوقا، وبه حادثة فريدة لم يذكُرها غيره من الإنجيليين عن السيِّد المسيح، وهي كما يلي:

    "وحين تمّت الأيام لارتفاعه ثبّت وجهه لينطلق إلى أورشليم. وأرسل أمام وجهه رُسُلاً. فذهبوا ودخلوا قرية للسامريين حتى يُعِدُّوا له. فلم يقبلوه لأن وجهه كان متّجهًا نحو أورشليم. فلمّا رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا يارب أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليّا أيضًا. فالتفت وانتهرهما وقال لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك الناس بل ليخلِّص. فمضوا إلى قرية أخرى.." (لو51:9-56).

    + هذه الحادثة مليئة بالأسرار والمعاني العميقة..
    فارتفاع المسيح إشارة لصعوده على الصليب لأجل خلاصنا، وأيضًا إشارة لارتفاعه بجسد بشريتنا إلى المجد السماوي بعد قيامته من الأموات..

    وتثبيت وجهه نحو أورشليم إشارة لتصميمه على تقديم نفسه ذبيحة عن خلاصنا..

    وانتهاره ليعقوب ويوحنا يكشف عن منهجه الأساسي في الخدمة وهو خلاص كلّ نفس مهما كانت في البداية عنيدة أو مُكابِرة أو تائهة وراء خداع شهواتها، وأيضًا يكشف عن حنانه وطول أناته مع مختلَف نوعيّات البشر.

    + ما أجمل أن يكون وجه المسيح متّجهًا نحو أورشليم التي تشير إلى مدينة الله أو مسكن الله مع الناس.. كما جاء في سِفر الرؤيا "رأيتُ المدينة المقدّسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء، من عند الله مهيّأة كعروسٍ مزيّنة لرجلها. وسمعتُ صوتًا عظيمًا من السماء قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعبًا والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم.." (رؤ2:21-3)

    فالسيد المسيح قد جاء إلى عالمنا لكي يربطنا بمحبّته، وينتشلنا من الموت، ويسحبنا وراءه، في مسيرة منتصرة إلى أورشليم السمائية.. هذه الرحلة الجميلة بدأت بمبادرة حُبّ هائلة منه.. ومَن يتذوّق هذه النوعية من الحُبّ لا يستطيع إلا أن يُسلِّم نفسه بالكامل لمن أحبّه واشتراه وخلّصه من العبوديّة، فيدخل معه في عهد جديد بالمعموديّة ويسير وراءه في موكب نصرته متّجهًا نحو أورشليم السماوية..!!

    + العجيب أن أهل قرية السامريين لم يقبلوا المسيح لأن وجهه كان متّجهًا نحو أورشليم.. فيبدو أنّهم كانوا يريدون أن يتّجه إليهم هُم..! أمّا السيِّد فكان يحبّهم ويريد أولاً أن يتمم عملية فدائهم على الصليب.. وبعدها سوف يتّجه إليهم بتلاميذه وخُدّامه، ليأخُذهم في الاتجاه الصحيح، ويجتذبهم إلى طريق الحياة الأبدية.. وهذا ما حدث بالفعل لاحِقًا عن طريق فيلبس الشماس (أع8).

    + اتجاه المسيح نحو أورشليم يدفعنا نحن أيضًا أن يكون اتجاهنا معه نحو أورشليم السمائيّة.. ويكون هدفنا واشتياقاتنا مُرَكّزة في أورشليم باستمرار، ولا يشغلنا عنها أيُّ اهتمامٍ آخَر.. بل تكون كلّ اهتماماتنا على الأرض في إطار اتجاهنا نحو أورشليم..!

    + بالطبع هذا قد لا يعجب البعض، وقد نكون غير مقبولين من البعض لهذا السبب، كما فعلوا مع السيّد المسيح..

    فالإنسان المتّجه نحو أورشليم سيتمسّك بالشهادة للحقّ، وبالأمانة في كلماته وفي سلوكه، مما سيجعله غير مرغوب فيه من البعض!

    وسيتمسّك بالتعفّف عن شهوات العالم وأمواله ومظاهره وكرامته، وهذا أيضًا سيجعله غير مقبول من البعض!

    وسيتمسّك بالمحبّة والتسامح والتغاضِي عن ضعفات الآخرين، وهذا سيجعله أحيانًا محتَقَرًا من البعض!

    + المسيحي الحقيقي دائمًا يسير مع المسيح متّجِهًا إلى أورشليم.. وليس عنده استعداد أن يُغَيِّر هذا الاتجاه أبدًا، مهما كانت التحدّيات والمضايقات، لأن فيه حياته وخلاصه!
    أمّا إذا أهمَل الإنسان، وغفل عن حياته الروحيّة، فقد ينحرف اتجاهه عن أورشليم.. وقد يأتي وقتٌ يصبح فيه وقد أعطى ظهره تمامًا لها... يا للخطورة..!!

    لهذا يحذِّرنا القديس بولس: "لأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَارًا، وَالآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضًا بَاكِيًا، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ الْمَسِيحِ، الَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ الْهَلاَكُ، الَّذِينَ إِلهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ. فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ..." (في3: 18-20).

    + السؤال الآن.. هل نحن صاعِدون فعلاً مع المسيح، ومتّجهون بكلّ قلوبنا معه نحو أورشليم..؟!!
القمص يوحنا نصيف