القمص أثناسيوس فهمي جورج
ارتفع المسيح بعدما أوصىَ بالروح القدس الرسل الذين اختارهم... وهكذا صارت الأربعون يومًا بعد القيامة ضمن خدمة المسيح وهو على الأرض... يفعل ويعلم بآن واحد؛ إلى اليوم الذي صعد فيه؛ وأسس الكنيسة بنفسه، بعد أن أخرجها إلى الوجود من جنبه الإلهي وغرستْها يمينه الطاهرة،
لتنمو وتتقوى وتُبنى وتسير في خوفه ويكون لها سلام... بقدرته حوّل سهام الشيطان المتقدة نارًا الموجهة إلى كنيسته؛ إلى سهام من نور وحياة؛ لأنه جرّد الشياطين ظافرًا بهم وأسقطهم مثل البرق، ولما تمت الأيام لإرتفاعه؛ صعد نحو المشرق إلى أعلى السموات، صعد وجروحه على يديه كعلامة فداء ورجاء حي أبدي؛ أتى بها من أدوم بثياب حُمر كدائس المعصرة؛ مجروحًا في بيت أحبائه؛ محتفظًا بها لأبيه في شفاعة دائمة؛ يتراءىَ على الدوام بروح أزلي؛ كعلامة مصالحة عوض قوس القزح؛ وكصك براءة ننال به الثقة... فإستقبلته الطغمات والأجنحة والخوارس والعجلات الناطقة والربوبيات والقوات في عظم بهاء قوة، واصطفوا أسباطًا أسباطًا؛ صفوفًا؛ ألوف وربوات في حضرة عظيم الأحبار؛ رئيس كهنة الخيرات العتيدة؛ حيث دخل إلى المسكن المخوف الجوّاني الذي فيه الآب؛ والذي لا سلطان لأحد أن يدخله إلا هو.
فبعد ظهورات القيامة التي رآه فيها تلاميذه حيًا ببراهين كثيرة وبعلامات مُلزمة لا تُقاوم؛ ظهر لهم وكلمهم عن الأمور المختصة بملكوت السموات، وفتح أذهانهم ليفهموا الكتب. أخيرًا ارتفع ليجذب إليه الجميع... ارتفع ليرفعنا؛ وصعد ليُصعدنا معه، فالعالم لا يراه؛ أما نحن فنراه؛ لأننا به نحيا وفي نعمته مقيمون؛ ولن نموت إلى الأبد، وهو الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده... إنه لا يزال ماكث معنا؛ يقودنا ويؤازر حياتنا في أحلك الليالي وأصعب الأيام... صعوده الإلهي كان هو الحدث الأخير لحياته على الأرض، وهو أيضًا ظهوره الأخير بعد قيامته، وبه تنتهي مسيرته على الأرض ليكون عيد صعوده زينة وكمالاً وتتويج الأعياد... حيث جلس عن يمين أبيه ليُجلسنا معه في السماويات؛ عندما نرجع كل واحد فينا إلى أورشليمه وإلى عليته.
كان مجتمعًا مع تلاميذه وأوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم حتى ينالوا قوة الروح القدس؛ ليكونوا شهودًا له إلى أقصى الأرض... ثم صعد الرب – وهو رأسنا – بالجسد قبلنا إلى السماء، وستتبعه بقية الأعضاء... صعد ليفطمنا من العلاقة المنظورة به؛ لكنه لا زال يحرسنا كما تحرس الدجاجة صغارها تحت جناحيها... صعد بجسد القيامة لكي نتعلم نحن ما الذي ينبغي أن نرجوه... حيث أنه انطلق ليملأنا من ذاته؛ وليملك على نفوسنا بقوة لاهوته المحيي... دخل إلى قدس الأقداس وارتفعت له الأبواب الدهرية... ملك القوات؛ العزيز؛ الجبار؛ القادر في الحروب... رئيس كهنتنا الوحيد الذي يرثي لضعفنا، صعد لأنه نزل... صعد ليجلس عن يمين العظمة؛ حيث الجلال والمجد الأسنى الذي له من قبل كون العالم... صعد كي يُصعد باكورتنا إلى السماء؛ ويدخل داخل الحجاب بالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد، في الموضع الذي لا يدخل إليه ذو طبيعة بشرية؛ وهو يظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا؛ ليُبطل الخطية بذبيحة نفسه.
ارتفع فيما تلاميذه ينظرون نحوه؛ في اليوم الأربعين بعد أحد القيامة، فأخذته سحابة عن أعينهم؛ تلك هي صورة صعوده المنظورة... ففي البستان سقط آدم؛ وفي بستان كانت القيامة؛ وفي بستان الزيتون صار الصعود؛ ليلتقي الادامان؛ الأول والثاني؛ وتتطابق الصورة... الأول اختبأ أمّا الثاني صعد علانية أمام أعين الجميع؛ وارتفع ليُلاشي خزي وسقوط الأول؛ وليرفع بنيه إلى العلا، صعد للسماء حيث كرسيه ومسكنه المستعد، وقوته في كل مكان معظمة. طلّ من العلو وأشرق من العمق على الجالسين في الظلمة وظلال الموت؛ فإستضاءت الخليقة كلها وتهللت بمجيئه... سكب عسلاً حلوًا على الأرض عندما كان يجُول يصنع خيرًا، ووضع على نفسه إثم العالم كله؛ ليأتي بالعتق للمستعبدين... رش المصالحة والرحمة والتحنن على جبلته التي صنعتها يداه. أتى إلينا على الأرض ثم نزل إلى ما تحت الأرض إلى الجحيم ليصالح العمق مع العلو... قيد القوي وغلبه وربطه وفتش خزائنه؛ وإسترد ما نهبه؛ ثم رجع لعلو أبيه منطلقًا من جبل الزيتون؛ سر المسحة المقدسة، فمن الزيتون يكون سر المسحة، ومنه صعد ليبارك برشمه الإلهي الأرض كلها؛ وليقتلع منها شوكة الموت؛ بعد أن كانت ملعونة من قبل... بسط يديه بالبركة الأخيرة وبارك خليقته؛ ثم ارتفع بالمجد أمام عروسه (كنيسته) ليجذبها وراءه فتجري؛ وليرسل لها غناه وخزانة أبيه.
إجتاز السموات... فتعجبت الطغمات لقدومه وصرخوا "مَن ذا الآتي من أدوم" (إش ١:٦٣) أي من الأرض؛ لكن الأبواب إنفتحت إكرامًا للممجد؛ سيد الكل؛ الذي رفع نفسه قربانًا لله أبيه؛ كباكورة وبدء... وفيه نظهر أمام الآب؛ وننال البراءة؛ وفيه نحن جميعًا كائنون على قدر ما أظهر نفسه كإنسان... لقد رُؤي على أجنحة الريح مع سحب السماء؛ عندما أتى وجاء إلى الآب وتقدم قدامه، وأُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا أبديًا لا يزول ولا ينقرض ولا يتزعزع... أخذته سحابة حضرة مجده؛ الذي يُخفي اللاهوت؛ الذي يُعمي العينين فلا ترى سوى ضبابًا وسحابًا؛ لكنها سحابة ملوكية مشرقة لامعة ولاغية لجاذبية الأرض... إنه إن شاء ظهر؛ وإن شاء اختفىَ... صعد على سحاب المجد وسيأتي على سحاب المجد لتنظره كل عين والذين طعنوه أيضًا؛ فقد دُفع إليه كل سلطان ولن يكون لملكه انقضاء.
إنه صعد ليُصعدنا معه بعد أن كانت الأبواب موصَدة أمامنا / إنه صعد من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا / إنه صعد لأنه من فوق وهو فوق كل رئاسة وسيادة وإسم / إنه صعد حيث كان أولاً؛ لأنه هو رأس الكنيسة الذي يملأ كل شيء في كل أحد / إنه صعد ليعد لنا مكانًا في منازل أبيه وليأتي أيضًا ويأخذنا / إنه صعد ليرسل لنا الروح القدس المعزي؛ وليملأ الكل من سرائر نعمته.