د. سامح فوزى
ما أكثر مفارقات الحياة. هناك من يطلب، ويلح فى التواصل مع مرءوسيه وقياداته بداع أو دون داع. وهناك من يطلب الهدوء والراحة والعزلة بعد انتهاء عمله. أظن أن الفارق بين هذا وذاك له علاقة وثيقة بنضج المجتمع ثقافيًا، وإنسانيًا، واجتماعيًا.

فى البرتغال هناك منذ سنوات تشريع يقضى بحق العامل أو الموظف فى عدم التواصل معه خارج أوقات العمل الرسمية، مما يعنى أنه لا يحق للمدير أو صاحب العمل أن يتصل بأى من مرءوسيه أو العاملين لديه هاتفيًا، أو يبعث لهم رسائل الكترونية، أو يتواصل معهم عبر تطبيق واتس آب أو أى تطبيق مماثل على وسائل التواصل الاجتماعى خارج أوقات العمل المحددة من الساعة التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساء إلا لضرورة قصوى. وتسرى نفس القواعد على الساعة المخصصة للغداء فى منتصف يوم العمل. ونظرا لأن كل التزام قانونى يؤدى الاخلال به إلى عقوبة، فإن الغرامة تنتظر كل صاحب عمل أو مدير ينتهك حق العامل فى عدم التواصل به، والتى تصل إلى أكثر من ثمانية آلاف يورو. نفس المبادئ القانونية مكفولة للعامل فى دول أخرى خاصة فى ظل الترتيبات التى أعقبت تنظيم العمل بعد التخلص من الإجراءات الاحترازية التى رافقت انتشار جائحة كورونا. ويتوقع أن يٌجرى حزب العمال فى بريطانيا، إذا فاز فى الانتخابات البرلمانية الوشيكة، تعديلات على قانون العمل على نحو يعطى العمال الحق فى عدم التواصل معهم خارج أوقات العمل.

واقع الحال أن المسألة تتجاوز العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وتتعلق فى الأساس بالثقافة العامة السائدة فى المجتمع، التى تقوم على احترام خصوصية المرء، وحقه فى الاستمتاع بوقته على النحو الذى يروق له خارج أوقات العمل، فلا يحمل معه هموم العمل، ولا يعيش رهينة الاتصال به طوال الوقت. يؤدى ذلك إلى أن يكون العامل أكثر هدوءًا، واستقرارًا، وحافزية على القيام بواجباته الوظيفية فى أوقات العمل المحددة. ويشير علماء النفس إلى أن الشخص يحتاج دائما إلى التخلص من ضغوط العمل فور الانتهاء منه، فلا يحملها معه إلى المنزل أو محيط علاقاته الاجتماعية، ولا يظل يفكر فيها، أو يشغل باله بها، خاصة إذا كانت تنطوى على ما يطلق عليه العلاقات السامة، أى التعامل مع زملاء سيئين أو مدير يمارس الإيذاء والكذب، والابتزاز، مما يجعل من الضرورى قصر علاقات العمل على الأوقات المحددة له، بحيث لا تتجاوزها أو تمتد خلفها، وهى ثمانى ساعات يوميًا، بمعدل أربعين ساعة أسبوعيًا فى أغلب الأحيان.

يبدو هذا الحديث مستغربًا فى مجتمعنا. هناك أصحاب أعمال ومديرون يعتبرون من حقهم تلقى إجابة سريعة من الموظفين لديهم فى أى وقت يتصلون بهم، أو يتواصلون معهم، سواء فى أوقات العمل أو خارجها. وإذا مال أحد العاملين إلى الاحتفاظ بقدر من الخصوصية مثل اغلاق هاتفه المحمول عقب انتهاء العمل، أو عدم الرد على الرسائل الالكترونية أو المحادثات على السوشيال ميديا، فأغلب الظن أنه لن يكون مقبولا من رؤسائه، وقد تلاحقه اتهاماتهم له بعدم الولاء للعمل، والشعور بالتعالى، الخ.

وإذا كان هناك من المديرين أو أصحاب الأعمال من يريد أن يكون العاملون تحت الطلب دائمًا، فإن هناك من الموظفين من يرون فى التواصل مع مديرهم باستمرار تعبيرًا عن الولاء له شخصيًا. ينقلون له هاتفيًا فى المساء التفاصيل التى تجرى خلال اليوم، مع بعض الحذف والإضافة، ويحيطونه علما بأمور تافهة أو قصص شخصية لا علاقة لها بالعمل لكنها ترضى غرور مديرين محدودى القدرات ينشغلون بالقيل والقال.وحين يضيع الوقت فى الأحاديث التافهة، والفارغة، فإن ذلك يأتى حتما على حساب الأحاديث الجادة، والنافعة. قصص كثيرة تتداعى فى ذهنى عن التواصل المرضى بين المدير والمرءوس خارج العمل، وأحيانا خارج الاخلاق. أعرف مالكا ومديرًا لإحدى الشركات الخاصة الكبرى، كانت لديه خبرات متميزة فى مجال تخصصه، ولم يكن يسمح بأى تواصل مع العاملين خارج أوقات العمل إلا لسبب مُلح وداع، ولم يقبل أى حديث معهم يتجاوز حدود العمل، ومقتضياته. قضى عمره يركز على جودة الأداء، والانجاز، وبعد أن رحل تولى شخص آخر مقاليد الأمور، ولما كان أقل خبرة وحصافة ووعيًا، وجد نفسه يهوى فى فخاخ العاملين، ويقضى وقت العمل فى حكايات لا علاقة لها بالشغل واعبائه، وتستمر معه فى اتصالات هاتفية حتى ساعة متأخرة من الليل. فى غضون عقد من الزمن تداعت الشركة، وأفلست، وتركت خلفها كلامًا وحكايات لا أكثر ولا أقل.
نقلا عن الأهرام