(قصه قصيرة)

 عيد اسطفنوس
 عبرت النصف الأول من العقد الثامن ودخلت فى حقبة أرازل الأيام ،ولا شك اقتربت النهايات ومن ثم يتوجب النظر الى الوراء لنتأمل فى هذا الشريط الطويل المضنى ، نتأمل فى رحلة الآلام والأحلام والأوهام رحلة الفشل والسقوط والاحباط ووهم النجاح ،رحلة الجراح المثخنه رحلة النفس القلقه رحلة الروح المعذبه وتوأمها الملتصق الحزن والألم رحلة النهايات المحتومه ، فيوم ماتت أمى وأنا فالثامنه انتهت طفولتى ويوم مات أبى وأنا فالثامنة عشره توقف الزمن ، ومابين الثامنه والثامنة عشره عشت سنى طفوله ومراهقه مرتبكه تراوحت بين الحب الأول البرئ وبين اندفاعات تجارب الجسد البكر.
 
وأصبحت أؤرخ بقبل وبعد سبتمبر الحزين ،ففى سبتمبر رحل أبى ولم يكن قد أكمل العقد الرابع وكنا فى الاسبوع الأول لدراسه نهاية المرحله الثانويه ،وانقلبت حياتى راسا على عقب وفى سبتمبر التالى وكنا عقب النكسه الكبرى وبعد تدهور الاحوال وبالكاد حصلت على شهادتى بدرجات بخسه وبشق النفس التحقت  بمدرسه عسكريه ضمانا لمأوى وهربا من واقع مؤلم ومستقبل غائم  فقد أصبحت وحيدا فقيرا بائسا يائسا ولم يكن هناك من يسأل عنى  بعد أن لفظنى  الجميع  بعد رحيل أبى (بالطبع عدا قليلين حسب امكاناتهم) ،وصفعتنى الحياه على وجهى وكانت الصفعه قويه حبست دموعى وواصلت المسير فلم يكن ثمة اختيارات متاحه .
 
فى اوائل العقد الثالث أنهيت دراستى والتحقت بالخدمه  وحصلت على أول راتب ودخلت الحرب وتزوجت وأنجبت ولم يفارقنى توأمى الملتصق الحزن وظلت مسحته مطبوعه على ملامحى ولم تفلح فى ازالتها أى نقلات حياتيه تبدو من بعيد مبهجه واستهلكت  هذه الحقبه ثلاثة عقود أخرى .
 وفى  مستهل العقد السادس كنت قد تقاعدت من الخدمة العسكرية وبدأت رحلة استشراف القادم المخيف الركون العاطل لكنى قاومت بشراسه ، ساعدتنى خبراتى المتراكمه وانضباطى وربما شئ من منطق مرتب ومظهر أنيق فى غير تأنق وملامح مقبوله ،استهلكت العقد السادس والسابع فى العمل وغالبا ماكنت أحصل على عمل كلما سعيت  وينيت منزلا جديدا، وبالطبع تسلل الزمن على خلايانا وفعل فعلته  مستغلا انشغالنا بالركض خلف سراب وحتى هذا السراب لو تحقق هل كان يساوى .
 
 وها عدنا من رحلة  الأوهام والأحلام عدنا كما جئنا عرايا فقد جاء الخريف عدنا كما جئنا فرادى فقد تساقط الأحبه فالطريق عدنا قابضين الريح والجمر والأحزان عدنا نجتر ذكريات تآكلت حوافها من زمن ،ذكريات سبعة عقود ونصف من  اللهاث المضنى .