د. منى نوال حلمى
يقول «سيجموند فرويد»، 6 مايو 1856 - 23 سبتمبر 1939:

«أعترف بعد الخبرة العميقة والطويلة، للنفس البشرية، بأننى فشلت فى معرفة كيف يستطيع البشر التعايش مع كل تلك الأكاذيب».

أوافق «فرويد». فـ«الكذب»، لغالبية البشر، هو فنجان القهوة الضرورى، كل صباح، للإفاقة بعد النوم، وضبط كيمياء المخ، وتحديد خريطة الكذب لليوم الجديد.

أعتقد أن الداء المزمن ليس الكذب، ولكنه يكمن فى «تبرير»، و«تمجيد»، و«تقديس» الكذب، وتسميته بمسميات تخفيه.

تكمن خطورة «تقديس الكذب» فى أن يصبح الإنسان الذى يخفى الحقيقة، إنسانًا لا غبار عليه، «طبيعيًّا» تمامًا، متحدثًا باسم «الفطرة»، البشرية، ينال كل الترحيب، والاستحسان، والامتيازات، والترويج، لا عيب فيه، ولا نقص، و«المناسب» تمامًا للحياة.

وعلى العكس، يبدو الإنسان الذى «لا يخفى الحقيقة»، غير طبيعى، لا يمثل الفطرة الصحيحة. هو النغمة «النشاز» فى سيمفونية الكون، أو زائدة وجودية، نتجت عن طفرة جينية خبيثة، ويجب استئصالها. ويواجهه الناس بالتقبيح والاستهجان والتهكم والنبذ، وفى أحيان كثيرة يتم تصفيته جسديًّا، حسب الظروف، والفترة الزمنية.

و«إخفاء الحقيقة»، أو الكذب، مثل البحر المالح، كلما شربنا منه ازددنا عطشًا.

فالكذبة الأولى تفتح الشهية للكذبة الثانية. والكذبة الثانية تسهل الكذبة الثالثة. وهكذا، يصبح الكذب «أسلوب حياة»، وكل كذبة حلقة فى سلسلة سريعة وممتدة المفعول، تُشعر الإنسان بالتفوق والتحكم. وفى بعض الأحيان يصاحب التفوق والتحكم إحساس يشبه النشوة من تعاطى المخدرات. وفى الكثير من الأحيان يصل الإنسان إلى مرحلة «الإدمان» المستعصية، تحتاج علاجًا، وإعادة تأهيل.

و«إخفاء الحقيقة» ليس متساويًا بين البشر. البعض يخفى «كل» الحقيقة، بعض يخفى «ثلاثة أرباع» الحقيقة، بعض آخر يخفى «نصف» الحقيقة، وبعض يخفى «ربع» الحقيقة.

يقولون إن الإنسان الذى يخفى «ربع» الحقيقة «أفضل» من الانسان الذى يخفى «نصف» الحقيقة.

لكننى أعتقد أن «الإخفاء» هو «الإخفاء»، بل أرى أن إخفاء «كل» الحقيقة أقل سوءًا، وضررًا، خبثًا، من إخفاء «ثلاثة أرباع» الحقيقة.

فأنصاف أو أرباع الحقيقة تؤدى إلى تشخيص المشكلة بشكل خاطئ، أو بشكل مجزأ، لا ينفذ إلى جذورها، أو جوهرها، أو السبب الأصلى لوجودها. وبالتالى، تتفاقم المشكلة، وتتكرر، مما يستحيل مواجهتها بالكامل، وحلها الى الأبد. كما أن أنصاف أو أرباع الحقيقة تقود إلى إدانة «الأبرياء»، و«تبرئة» المتورطين، مما يعطل مسيرة البشرية نحو الارتقاء، والنزاهة.

«الحقيقة» مثل «الحرية» لا تقبل التقسيط، أو التجزئة. لا يوجد «ربع» حقيقة، أو «نصف» حرية، إما كل شىء، أو لا ش

والحقيقة ربما تكون «مُرة». لكن إخفاءها، أو تجزئتها، أشد مرارة.

وإخفاء الحقيقة يسببه إما الخجل من قولها، أو الخوف من إعلانها، أو للشعور بالأمان فى تقليد الآخرين الكاذبين، أو لأن الاعتراف بها «سيقطع عيش البعض»، ويغلق الحنفية التى تجلب الفلوس أو الشهرة أو الهيمنة، أو كل هذه الأشياء معًا.

غالبية البشر يعتبرون الحقيقة فضيحة يجب سترها بأى طريقة. وكم من جرائم القتل التى وقعت، لأن ضحاياها يهددون بإفشاء الأسرار، وكشف الحقيقة.

يقول رينيه ديكارت، أبو الفلسفة الحديثة 31 مارس 1596 – 11 فبراير 1650 «عندما أعجز عن معرفة الحقيقة، أقل ما يجب أن أفعله هو التوقف عن إعطاء الأحكام، وتجنب إضفاء المصداقية على شىء باطل».

أما إيمانويل كانط 22 إبريل 1724 – 12 فبراير 1804، وهو آخر فلاسفة عصر التنوير فى التاريخ الأوروبى 1685– 1815، فقد رأى أن «الحقيقة تستمد قيمتها من ذاتها، وليس لتحقيق مصلحة، ولا يجب الافتراء على الآخرين، حتى لو كانت نوايانا صالحة.. لأن الحقيقة واجب أخلاقى». وهذا دفعه للقول: «لا أخاف إلا من شيئين، النجوم فوقى فى السماء، والقانون الأخلاقى فى داخلى».

وللأديب مارك توين 30 نوفمبر 1835 – 21 إبريل 1910، مقولة على مقاس إيمانى وقناعتى: «إذا لم تقل الحقيقة، فاسكت».

وما أكثر أعداء الحقيقة! كلما نطقت بحقيقة جديدة كسبت أعداء جددًا. ويكره الناس منْ يقول الحقيقة، أكثر مما يكرهون الحقيقة ذاتها. إذا أردت أن يكرهك الناس، فما عليك الا أن تقول الحقيقة.

كتبت نوال السعداوى 22 أكتوبر 1930 – 21 مارس 2021: «يقولون إننى امرأة متوحشة.. وهم محقون، فأنا أقول الحقيقة، والحقيقة متوحشة».

الحقيقة «متوحشة»، لأنها بسيطة جدا، بساطة حب الأم لأطفالها، ولكن هذا الحب، أيضًا، هو أكثر أنواع الحب توحشًا.

الحقيقة «متوحشة»، لأن لديها «تلقائية» الأطفال، التى تُسقط فى لحظة عفوية أقنعة آلاف السنوات.

على مر التاريخ، فى كل مكان، كان أعضاء «حزب الكذب» يستولون على جميع الامتيازات، ويتضامنون، ويقمعون، ويقتلون، من أجل «إخفاء» الحقيقة، واحتقارها وإهانتها، والتحايل عليها، واتهامها بما ليس فيها.

«الحقيقة تبقى هى الحقيقة»، ولو نطق بها إنسان واحد». الحقيقة تقف فوق «هزائمها»، ترفع رأسها عاليًا، وتنتصر فى النهاية.

قال «غاندى» 2 أكتوبر 1869 – 30 يناير 1948: «فى البداية يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم يساومونك، ثم تنتصر».

والحقيقة ليست فقط «واجبًا أخلاقيًّا» علينا فعله، كما قال كانط. هى أيضًا «حق أخلاقى» لصالح قائلها. فأنا عندما أقول الحقيقة ستنضج بداخلى ثمار شهية، لم أعلم بوجودها، وتتفتح فى قلبى الورود الذابلة. كل مرة أنطق بالحقيقة، ستضىء المصابيح المطفأة، ويُشفى كل داء.

كل مرة تتعطر شفاهى بملامسة أحرف الحقيقة، أزداد قدرة على كشف الكذب، وأعجز عن النوم معه، فى فراش واحد.

■ ■ ■

خِتامه شِعر

رغم وعورة وعتمة الطريق

الا أننى

قد انتزعت دور البطولة المطلقة

كل ليلة يقف الجمهور منبهرًا

يمطرنى بعاصفة من التصفيق

لكننى أعترف

أن المسرحية لا تعجبنى

كل ليلة

أصرخ..أستغيث.. أنزف

بإعجاب يرمقوننى

أنظر إليهم شاردة

زهرة ذابلة بلا رحيق

يجب أن أكمل الدور حتى الانتهاء

كل ليلة يجب أن أنحنى للتحية

وأنا ما اعتدت يومًا على الانحناء

قريبًا سوف تتوقف العروض دون إنذار

يومًا ما سوف تنطفئ كل المصابيح

ثم سأذهب طى النسيان ويُسدل السِتار
نقلا عن المصرى اليوم