أحمد الجمال
عرفت بعض المناطق الشعبية نوعًا من المعيز «الماعز» اسمه «زرابى»، يختلف فى الشكل عن المعيز البلدية المعتادة، ويختلف عنها فى القدرة على التكاثر.. لأن الزرابى كبير الحجم نسبيًا وله أذنان طويلتان عريضتان تتدليان على جانبى رأسه، وله فك سفلى بارز للأمام، فيما العلوى أقصر منه، ولون شعره فى الغالب بنى بين الغامق وبين البيج، وتستطيع الأنثى أن تحمل فى بطنها ثلاثة أو أربعة أضعاف ما تحمله الأنثى البلدية.. يعنى تلد الزرابى خمسة أو ستة مواليد من الذكور والإناث يتسابقون على رضاعتها.

وكان الوالد- رحمة الله عليه- رغم تعليمه العالى ومهنته كمدرس وناظر ومدير يسكنه الفلاح ورب الأسرة، لأنه أثناء دراسته فى كلية الشريعة أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين كان يسكن فى حى الخليفة ويذهب مشيًا إلى سوق إمبابة فى البر الغربى للنيل، ليشاهد الجمال «الإبل» والخيل وبقية الماشية المعروضة للبيع ويقف مشدوها أمام الاختبار الذى يختبر به رواد السوق من مشترى خيول جر العربات والأحصنة، إذ كانوا يربطون العجلات الأربع الخشبية للعربة الكارو الكبيرة بالجنازير ليمنعوها من الدوران، ويضعون حمولة ثقيلة على سطح العربة، والحصان مربوط فى عريش العربة، ويأمر العربجى الحصان بجر العربة فإذا نجح فى تحريكها وجرها للمسافة المحددة صار «فرس فرسون» غالى الثمن.

وكانت أول مرة شاهد الفلاح الأزهرى- مالكىّ المذهب الحاصل على العالية ثم العالمية ثم التخصص فى التدريس- الماعز الزرابى كان فى حى «الشرابية وأشمغا»، فقرر اقتناء أنثى وذكر من هذا النوع، وشحنهما لطنطا، وبدأ التناسل ليكون من حظى أنا وشقيقى حمدى المساهمة فى إحضار البرسيم شتاء للمعيز، والذرة الصفراء المجروشة لما بعد البرسيم، حيث قيظ الصيف، ولا بأس من مرات نأخذ القطيع لنعبر السكة الحديد القريبة من الدار ونطلق الماعز فى النجيل الأخضر والحشائش المنتشرة على جسر ترعة صغيرة قليلة المياه ملاصقة لشريط القطار.

وفى القيظ كنا نجلس بعيدًا نسبيًا لنلاحظ تسلل الثعابين من «هيش» البوص البرى المنتشر على الجسر، وهى تنزل الترعة وتسبح بأعداد مخيفة رافعة رأسها، وتظل فى الماء لحين انكسار الأشعة الحارقة فتخرج متجهة إلى المكان الذى أتت منه!.

ورغم أن العبقرى محمد عبد الوهاب غنى لعيشة الفلاح «متهنى القلب المرتاح اللى مطرح ما ييجى فى عينه النوم ينام مرتاح البال»، إلا أن الوجه الآخر للفلاح المتهنى فى زماننا إياه هو التعايش مع الثعابين على شوية مياه فى قاع ترعة صغيرة، وليتها مياه صالحة؛ لأنها حاملة البلهارسيا ومخلفات الماشية وربما مخلفات البشر، ممن يعتقدون حتمية الاستنجاء من ماء الترعة لزوم التطهر لأداء الصلاة!.

ولا أنسى ذات صيف ونحن فى الغيط كان ما تبقى من طعام هو أجزاء مكسرة من عيش فلاحى جاف وبقايا غموس عبارة عن لفت وباذنجان مخلل، وقرر أكبرنا- ونحن بين الصبا والمراهقة- أن الترعة مليانة سمك صغير علينا أن نصطاده ونضعه فى راكية النار.. وخلع أحدنا جلابيته ليصير حجرها أشبه بشبكة مفرودة تحت سطح المياه، لجمع الأسماك الصغيرة السابحة، التى تبين فيما بعد أنها «أبو ذنيبة» أى صغار الضفادع التى فقست من البيض تمهيدًا للطور البالغ البرمائى.. والعجيب أن «أبو ذنيبة» يسبح فى الماء بجسم صغير منتفخ وذيل يتحرك للطفو وكأنه سمك صغير.

وفى تلك الأيام من أيام القيظ لم يكن الغيط يجود بأى غموس أخضر، يعنى لا سريس ولا جلوين «جعضيض» ولا «حندقون» ولا «حمّيض» ولا شواشى أوراق فول أخضر، ولا سنابل قمح خضراء ممتلئة يمكن أن تفرك ويتم سفها، ولا مقاتة فيها خيار وقتة.. ولذلك كانت هدية الغموس تأتى من السماء عندما يمر على السكة القادمة من فرع رشيد إلى ترعة القضابة ومنها إلى القرية أحد المراكبية القادمين بمراكبهم من البرلس أو رشيد مرتديًا السروال الواسع الطويل والصديرى القطنى المفتوح، ويحمل على ظهره قفة ممتلئة بفصوص الملح الرشيدى ومقطفين فى أحدهما سردين مملح وفى الآخر بلح سمانى رامخ، ويسير منحنيًا للأمام من ثقل الحمولة وينز عرقًا ويقطع طريقه سرب شياطين صغار- أى حضراتنا- ويبدأ الأمر بالشحاتة أى التسول و«عم.. عم.. حصوة ملح نغمسوا بيها» فيرد بغلظة «امشى يا ولد منك له»، رافضًا أى تبرع.. وربما يكون لحديث الذكريات تكملة.
نقلا عن المصرى اليوم