طارق الشناوى
أتم قبل يومين عبد الحليم حافظ عامه الـ 95، لو كان بيننا الآن، لا أتصور سوى أنه سيظل فى الملعب، يغنى ويرقص على المسرح، مثلما يفعل الآن عمرو دياب، وسوف يظل هو أيضا (الألفة) بين كل أقرانه مثلما نرى الآن عمرو دياب، ولن يتردد فى بطولة فيلم غنائى جديد، يضيف إلى مشواره، مثلما يحاول الآن عمرو دياب بعد ابتعاد دام 30 عاما.
كل شىء فى حياة عبد الحليم كان مسخرا من أجل نجاح مشروع عبد الحليم، لا تصدقوا كثيرا، كلمات الحب والغرام والهيام التى كان يقدمها فى أغنياته، ويرددها فى حياته، وأعادها من بعده أصدقاؤه، كلها كانت قصصا وهمية، مجرد وقود من أجل أن يبدع فنا تحت لهيب نيران قلبه المعذب.
قبل ربع قرن عندما أتم عبد الحليم السبعين، سألت رفيق مشواره الموسيقار كمال الطويل، أين ترى عبد الحليم الآن؟.. أجابنى: سيظل فى أول الصف، وأضاف: ربما تجد شيئا مما يقدمه الآن كاظم الساهر، فى أغانى عبد الحليم، أعتقد أنك من الممكن أن تلمح فيها شيئا من عبد الحليم، لو كان بيننا فى التسعينيات سيغنى شيئا قريبا من هذا.
الأستاذ كمال الطويل كانت لديه قناعة أن ربنا منح عبد الحليم فيضا من (الكاريزما) وقدرا لا ينكر من الذكاء الفطرى، وهما سلاح البقاء، صوت عبد الحليم وحده لا يكفى، وأضاف: عندما يتواجد عبد الحليم فى أى مكان تتوجه إليه القلوب قبل العيون، تلك هى المنحة الإلهية.
شهد عام 1953 بداية الانطلاق الجماهيرى فى الشارع، فى أعقاب نجاح أغنية (صافينى مرة) تلحين محمد الموجى، وبعدها بعام (على قد الشوق) تلحين كمال الطويل، لتصبح الأغنية رقم واحد، وتوجه أكثر من 25 مطربا جديدا إلى مبنى الإذاعة القديم فى شارع (الشريفين)، يقلدون عبد الحليم ويرددون (على قد الشوق) من أجل أن يتم اعتمادهم فى الإذاعة المصرية، وبالطبع رفضتهم جميعا لجان الاستماع، لأنهم صور باهتة من العندليب وظل الأصل، حتى الآن.
على الجانب الآخر فى نفس التوقيت، تابعنا، أفول ونهاية مشروع مطرب واعد اسمه إسماعيل شبانة، من عايشوا تلك الحقبة الزمنية أكدوا لى أن المرارة والحسرة كانت تسكن قلب إسماعيل، ليس قطعا بسبب النجاح المدوى لشقيقه الصغير عبد الحليم، وتهافت شركات الإنتاج للتعاقد معه، ولكن لأنه لم يجد أى اهتمام رسمى أو شعبى، فهو صاحب صوت قوى ومتكامل، دعمه بالدراسة فى معهد الموسيقى، بل وحصل على شهادات شخصية تشيد به وبصوته، من كبار الملحنين الذين أثنوا على تفرده، إلا أن الحلو كان ينقصة (دقة)، وأعنى بـ (الدقة) تلك الومضة السحرية، التى يطلقون عليها (الكاريزما)، وهى ليست مقصورة فقط على نجوم الغناء والتمثيل كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكن حتى بين الكتاب، هناك ندرة منهم يمتلكون تلك (الكاريزما)، مثل يوسف إدريس من الجيل الماضى وأحمد مراد من هذا الجيل، هناك آخرون ولا شك يكتبون بتمكن وإبداع، إلا أنهم لا يملكون القدرة على الجذب.
كان الأمر ولا شك قاسيا على إسماعيل شبانة، ومع الزمن ومع تضاؤل الفرص المتاحة، لم يعد أمامه سوى أن ينسى تماما حلمه الخاص، ويتحول ليصبح واحدا من فريق عبد الحليم، ينقل إليه ما يدور فى معهد الموسيقى العربية، حيث كانت تجرى بروفات الأغنيات، وبالتالى يمسك عبد الحليم بالنغمة القادمة، من خلال أذن شقيقه المدربة على التقاط الجمال الموسيقى، كان إسماعيل يتابع أحوال المطربين المنافسين وينقلها لعبد الحليم. روى لى مثلا الأستاذ كمال الطويل، أنه فوجئ بتليفون من عبد الحليم يعاتبه لأنه منح المطرب اللبنانى محمد مرعى لحنا يقول مطلعه (لأ يا حلو لأ/ لأ مالكش حق)، وبالفعل صارت لحنا شهيرا، بل هى الأغنية الوحيدة التى اشتهرت لمرعى فى مصر، عبد الحليم قال للطويل إن إسماعيل أخبره باللحن الرائع الذى تجرى بروفاته، وأنه كان يفضل أن يردده هو قبل مرعى.
إسماعيل شبانة كان هو سر بقاء عبد الحليم على قيد الحياة، فلقد أنقذه من الموت، وحمله على يده وهو رضيع ابن أيام، قبل أن يفتك به أهل قريته «الحلوات» بمحافظة الشرقية، بعد أن اعتبروا ميلاده فأل شؤم يحمل أجنحة الموت، ماتت أمه وهى تنجبه، ومات والده بعد أسبوع واحد من ولادته، «إسماعيل» أيضا كان هو المعلم الأول لشقيقه الصغير، وهو الذى أخذ بيد «عبد الحليم» وأقام عنده فى القاهرة بعد أن ترك الملجأ الذى عاش فيه قرابة 10 سنوات، وعلمه أصول الغناء وألحقه بمعهد الموسيقى، صوت إسماعيل شبانة من ناحية البناء الفنى يعتبر مقياساً للاكتمال، حتى إن بعض كبار الموسيقيين أمثال سيد مكاوى وعبد العظيم عبد الحق وعبد العظيم محمد بل والموسيقار الكبير رياض السنباطى، كانوا يرون فيه الصوت الأحق بالنجاح ويفضلونه كخامة صوتية على شقيقه عبد الحليم.
مفتاح النجاح الاستثنائى هو تلك (الكاريزما) ولكننا يجب أن نقول إنها ليست بالضرورة أبدية، هناك فنانون امتلكوها فى مرحلة زمنية، وبعد ذلك غادرتهم، خرجت ولم تعد لأنهم لم يحافظوا عليها، بددوا طاقتهم فى الهواء الطلق بعيدا عن حلبة الغناء.
(الكاريزما) تعنى بزاوية ما الحضور الشخصى الطاغى، بينما هناك على المقابل من لديهم انصراف شخصى طاغ، يظلون طوال العمر يندبون حظهم العاثر بسبب (الكاريزما) المفقودة.
إنسان تراه لأول مرة تجد أن المكان امتلأ فجأة بالأكسجين تنتعش به رئتاك، وعلى الجانب الآخر تماما هناك بشر تحولوا إلى مصدر طبيعى لثانى أوكسيد الكربون الخانق!!.
سيقول البعض هل يظل العندليب على المسرح بعد أن يكمل 95 عاما؟.. إجابتى هى نعم، مع كل التقنيات الحديثة واقتران العالم الافتراضى مع الواقعى، وتطور الذكاء الاصطناعى الذى فاق كل خيالنا، من الممكن أن يستمر فى حلبة الغناء حتى لو تجاوز الـ 100!!.
نقلا عن المصرى اليوم