عاطف بشاى

كانت تربطنى بأمير القصة المصرية القصيرة، المبدع الفذ «يوسف إدريس»، علاقة حميمة وطيدة بدأت فى منتصف السبعينيات واستمرت فى تواصل مثمر وجميل حتى غادر عالمنا (أغسطس ١٩٩١)، حيث استضافنى معه الإعلامى الراحل «شفيع شلبى» فى برنامجه التلفزيونى، الذى كان يعرض فيه مشروعات التخرج المميزة لطلبة المعهد العالى للسينما المأخوذة عن نصوص أدبية ويطلب من الأديب مناقشتها وتقييمها وإبداء رأيه فيها وهل نجح المخرج وكاتب السيناريو والحوار فى تحقيق رؤية الأديب الفكرية وما أوجه التميز والقصور فى ترجمة هذه الرؤية.. كان مشروع تخرجى هو المأخوذ عن قصته البديعة «لغة الآى آى»، وحققت بموجبها المركز الأول بتقدير جيد جدًّا مع مرتبة الشرف الأولى فى دفعة (١٩٧٦).. أعجب الأستاذ إعجابًا بالغًا بالفيلم، وأثنى علىَّ ثناءً لم يخطر على بالى.. وقال لى إنى أفضل مَن جسد عملًا فنيًّا مأخوذًا عن قصة له.. وظل منذ ذلك اليوم المنشود يتابعنى ويساندنى.. وأسعدنى أن يقدم لى هدية هى قصة قصيرة لم يكن قد نشرها من قبل لتجسيدها فى مسلسل تلفزيونى هى قصة «الطوفان»، التى قام ببطولتها «محمود ياسين» و«رغدة»، وحققت عند عرضها نجاحًا ملموسًا.

 

والحقيقة الناصعة التى لا شك فيها أن «يوسف إدريس»، رائد القصة القصيرة، أعظم كُتابها وأهمهم فى تاريخها كله دون منازع.. وإذا قيل إنه خرج من عباءة «تشيكوف»، فنحن نجافى الحقيقة، وأَوْلَى بنا أن ندرك أنه بموهبته الطاغية تجاوز «تشيكوف».. وإبداعاته هى الأكثر تجسيدًا للبيئة المصرية الأصيلة والأعمق تعبيرًا عن واقعنا المعيش.. لكن للأسف لم تستطع السينما أن تنهل من بحر أدبه الفياض وعمق رؤيته الفريدة للعالم، ولم تقدم السينما فى معظمها إبداعاته بنفس مستواها الروائى.. بل شوهت أكثرها مثل «العيب» و«قاع المدينة» و«حادثة شرف»، بل ظلمته بالقياس إلى غيره من الأدباء الكبار مثل «نجيب محفوظ» و«إحسان عبدالقدوس»، مع أن قلمه كان يرسم الشخصيات والأجواء المرئية وعنصرى الزمان والمكان اللذين يميزان البناء الدرامى وتجسيد الحياة الاجتماعية والنفسية، بل الفلسفية، بعبقرية أخاذة.

 

ورغم كثرة الأفلام القصيرة المأخوذة عن أعمال «يوسف إدريس» وإقبال شباب المخرجين وكُتاب السيناريو عليها لثراء موضوعاتها المتنوعة وعمق مضامينها ومحتواها الاجتماعى والنفسى والإنسانى والفلسفى وبراعة «يوسف إدريس» فى التقاط المفارقات وحشد التفاصيل الموحية والدلالات المبهرة والقدرة على ارتياد عوالم مجهولة فى النفس الإنسانية مما يُغرى بثراء بصرى يبعث على تحفيز رغبات وطموحات المبدعين الشبان فى خوض تحديات التعبير المرئى فى لغة سينمائية معاصرة تبرز فيها تجليات الصورة.. رغم ذلك، فإنه للأسف كما حدث مع يوسف إدريس فى الأفلام الطويلة، لم يستطع إلا بعض الأفلام القصيرة القليلة ومشروعات تخرج المعهد العالى للسينما أن تعبر تعبيرًا جيدًا عن عالم يوسف إدريس بشكل بالغ العمق والثراء.. منها فيلم «مشوار» وفيلم «العملية الكبرى» وفيلم «لغة الآى آى».

 

تمثل قصة «لغة الآى آى»، وبالتالى فيلمى المأخوذ عنها، مواجهة بين عالمين.. عالم القرية وبؤس الفلاحين وشظف العيش، وبين الطبيب المثقف، الذى انسلخ من بيئته ليحقق صعوده الطبقى فى سباقه المحموم، الذى تخلى فيه عن ارتباطاته بهذا الواقع ليواجه مع اقتحام هذا العالم بذكرياته عن طفولته وعن حياته داخله فى حوارى القرية وأزقتها وترعها وصداقته بطفل نابه يجلس بجواره فى فصل مدرسى فى المرحلة الابتدائية ويغش منه إجاباته فى الامتحانات.. وفى لقطة موحية تتجاور أرجلهما الصغيرة فى الترعة، ونفهم من السياق أن طبيب المستقبل «الحديدى» هو ذلك الطفل الذى استطاع والده أن يساعده لإكمال تعليمه فى القاهرة حتى يصبح ذلك الطبيب الثرى، بينما يُصاب الصديق بالبلهارسيا، ولا يُكمل تعليمه، وتحدث تلك المواجهة الفريدة بين الدكتور ورفيق طفولته، الذى حوله الفقر وسرطان المثانة إلى كائن مثنى على نفسه يطلق صرخات ألم تتحول إلى همهمات غير إنسانية بالمرة فى ضوء الألم الساحق.. يواجه «الحديدى» ماضيه وحاضره جميعًا.. ويقارن حياته بحياة «فهمى»، الذى عانى الفقر والبؤس.. لكنه كان يلوذ بحضن الجماعة- كما يرى الناقد الكبير فاروق عبدالقادر فى كتابه عن يوسف إدريس- يعمل مع الرجال ويضحكون سويًّا ويتشاورون فى مشاكل العمل ويستمتعون بمشوارهم إلى السوق.. بهذه الأشياء الصغيرة المتناثرة فى طريق حياتهم.. يمتلئ كل منهم بإحساس يومى متجدد بأنه حى.. وأن الحياة مهما صعبت فهى حلوة.. أما هو فينظر وراءه فيرى شاشة حياة مليئة بالصلات المقطوعة والصداقات المبتورة بأجزاء العلاقات لإنسان لا يريد أن يرتبط حتى لا يعطله الارتباط.. ولا ينتمى لجماعة أو حتى صديق لأن الانتماء فقدان لذاته الحرة وكيانه، والنتيجة جرى سريع إلى قمة الوصول.. هو فى الحقيقة هرب سريع من الحياة.. والنتيجة أنه ميت حى أكثر من «فهمى»، الذى يعرف يقينًا أن المرض الضارى الذى افترسه لن يُبقيه سوى أيام.. وتنتهى تلك المواجهة المريرة بـ«الحديدى» يحمل فهمى على كتفيه.. ويغادر الحى الراقى الذى يقطن به، معلنًا أنه.. «رايح فى طريق صعب شديد».

نقلا عن المصرى اليوم