عادل نعمان
.. وكانت العرب فى الجاهلية تحج وتعتمر (الطواف واستلام الحجر الأسود والسعى بين الصفا والمروة ورمى الجمرات والوقوف بعرفة، وكافة تفاصيل الشعيرة إلا القليل منها)، حتى جاء الإسلام وأجازها وأقرها ركنًا من أركانه، والحج منفعة ومصلحة منذ الجاهلية للقائمين ومازال أكثر..
وهذا عمر بن الخطاب يقول: «وهل كانت معايشنا إلا من التجارة فى الحج؟!».. وهذا أبوطالب قد أوصى وجهاء مكة بوصية: «أوصيكم بتعظيم هذه البنية، فإن فيها مرضاة للعرب وقوامًا للمعاش»، ومازالت وأكثر، وكان العرب جميعهم يحجون البيت بكل دياناتهم، حتى الوثنيون منهم، حتى السنة التاسعة للهجرة، وانفراد المسلمين به، وتقول كتب التراث إن رعاية البيت قد عُهدت إلى ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم «الجرهميين» حتى عمرو بن الحارث الجرهمى، وانتقلت إلى عمرو بن لجى الخزاعى، واستمرت فيها حتى جاء «قصى» جد النبى، «وعادت إلى بنى إسماعيل»، روايات مختلفة فى هذا الشأن.
والأشهر الحرم ما كانت حرمًا إلا بسبب الحج والتجارة ليس غير، وكان العرب يحرمون فيها كافة أعمال القتال والغزو، وكانت أموال الغزو فى هذا العهد أشرف الأموال والأعمال، وذلك لتسهيل وتأمين طرق الحجيج من السطو والاستلاب، وهى «ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وشهر مفرد هو رجب»، والثلاثة الأولى كانت لإقامة شعيرة الحج، شهر للسفر وآخر للعودة والوسط للإقامة والحج، ولما كان الحج لمرة واحدة فى الأشهر الثلاثة الأولى لا يكفى لزيارة البيت من ناحية والأخرى زيادة فى النفع والربح والإعاشة لأهل مكة، فكانت العمرة فى شهر رجب «وهو من الأشهر الحرم» للبلدان المجاورة، ومن أراد أن يعتمر فى غير هذا فليس عليه حرج، إلا إذا كان القتال قائمًا فعليه نفسه.
ولقد أبقى الإسلام على كافة طقوس الحج غير ما ألفته قريش من رفعة وصدارة على غيرها، وهو ما يُعرف بـ«الحمس»، وهى أفضلية وتمييز وعلو مكانة لقريش عن الآخرين (فلا يقفون فى عرفة كغيرهم من الحجيج، ويطوفون بالبيت بملابسهم دون إحرام، ولقد فرضوا على الحجيج ألا يطوفوا فى ثياب يلبسونها بعد الحج ويحرقوها بعد إتمام الشعيرة، أو يطوفوا عرايا، أو فى لباس من أهل الحمس بثمن، وأن يدخلوا البيوت فى الحج من أبوابها الأمامية وباقى الحجاح يدخلونها من الأبواب الخلفية، ولا يمتهنوا مهنة أثناء الحج تقلل من شأنهم بل يبدون بمظاهر الوجاهة والأناقة، وفرضوا على الحجيج ألا يأكلوا من طعام قد جلبوه معهم وأن يشتروا من أهل مكة)، ولقد ساوى الإسلام بين كل الحجيج من قريش ومن غيرها ، وألغى هذا الحمس.
ولما فُرض الحج فى الإسلام كما كان فى الجاهلية فإن الرسالة كانت ومازالت واضحة «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا»، والاستطاعة والقدرة حسب ظروف الناس وأحوالهم، فقد كانت على عهد رسول الله «الزاد والراحلة»، إلا أن «السبيل» والقدرة والاستطاعة أصبحت أكثر تعقيدًا وتجاوزتها القدرات الشخصية للناس، وزادت الأعباء من «زاد وراحلة» إلى تربية وتعليم وصحة وإعاشة والكثير من احتياجات الناس، بل وتشعبت وتشابكت المصالح والمنافع، ولم يعد هذا الاحتياج يشمل المسافر فقط بل أبناءه وأحفاده وأخريات، فلا يجوز الحج لمدين بدين، أو وجبت عليه نفقة شرعية من مأكل وملبس وتعليم أو زواج أبناء، أو حوائج أصلية من مسكن وزكاة أو نذور أو ضرائب، ومن الطبيعى ألا يكون حجًا صحيحًا إذا كان بالتقسيط لشركات السياحة أو الاقتراض من البنوك، فقد تجاوز حد الاستطاعة والقدرة، ولو خاف الحاج على نفسه من مرض أو وباء فلا حرج عليه، ولا يعتبر الحج صحيحًا إذا كان تبرعًا من الغير، أو كان على سبيل الهدايا أو الرشوة أو العمولة «تحت أى مسمى أو صورة» أو بأموال العامة من المسلمين كبيت المال أو أموال الشعب بأى شكل من الأشكال أو الوسائل، كل هذه التعقيدات فى حاجة إلى تجاوز القديم من «الراحلة والزاد» إلى آفاق بعيدة تستوعب كل هذه المتغيرات، والتى تزيد عليها قدرات الدولة فى تحويل العملة والحدود والمشاكل السياسية، ولم تكن هذه العوائق والموانع فى هذا الزمان، وقد كان الحكم بسيطًا «زاد وراحلة» على بساطة ما كان قائمًا، «وعلى عهدتى الشخصية أن كل الفتاوى القديمة والحديثة تراعى مصالح ومنافع قوم دون غيرهم، بل وتتفوق وتتخطى مشاكل واحتياجات وفقر الغير أفرادًا ودولًا».
وللدكتور شوقى علام، مفتى الديار، فتوى فى نهايتها: «أن تكون نفقة الحج زائدة عن احتياجاته الأصلية واحتياجات من يعول مدة غيابه، من مسكن وثياب وأثاث ونفقة عياله وكسوتهم وقضاء ديونه»، وهو نفسه بالحرف ما قاله الأوائل دون تغيير أو تبديل، وعلى فضيلته أن يتوسع فى «ديونه» هذه بما يسمح بسلامة وأمن المجتمع، فلا حج ولا عمرة بالتقسيط أو الاقتراض، بل الأكثر.. حين تكون الدولة مدينة وتعانى من أزمات اقتصادية فهذا أولى ومقدم.
«الدولة المدنية هى الحل».
نقلا عن المصرى اليوم