القمص يوحنا نصيف
في افتتاحيّة الليتورجيّة القبطيّة، يقوم الكاهن -بعد أن يختار الحَمَل- بتمجيد الثالوث القدّوس، قائلاً:
"مجدًا وإكرامًا للثالوث القدّوس.. سلامًا وبنيانًا لكنيسة الله.."
فالكنيسة هي جسد المسيح، وأعضاؤها هم أهل بيت الله، وقد صاروا هيكلاً لروحه القدّوس، لذلك فإنّنا في بداية صلواتنا نقدِّم التمجيد للثالوث القدّوس إلهنا، ونطلب السلام والبنيان للكنيسة المقدّسة بكلّ أعضائها..
الطبيعي أن تمتدّ هذه الصلوات في حياتنا وسلوكنا، لا أن تقتصر فقط على ما نقوله في القدّاس الإلهي؛ بمعنى أن تكون جميع تصرّفاتنا وكلماتنا واتّجاهاتنا من أجل تمجيد الله، وسلام وبنيان الكنيسة وكلّ عضو فيها..
* إزعاجًا وتَفتيتًا وتشويشًا:
أتعجّب أحيانًا عندما أرى بعضًا من الذين يحفظون هذه الصلاة ويردّدونها، يفعلون عكسها تمامًا.. إذ يبثّون الإزعاج والتشويش داخل الكنيسة، ويكرّسون طاقتهم -بوعي أو بغير وعي- لتشتيت الناس عن محبّة المسيح الذي اشترانا بدمه ووحّدنا معًا فيه.. فنجدهم يهاجمون ويدينون ويطعنون في بعضهم البعض، ويوزِّعون الاتهامات بالهرطقة، ويفتعلون معارك وهميّة داخل جسد المسيح، ويفتِّتون وحدانيّة القلب التي للمحبّة.. وكلّ هذا بداعي حماية الإيمان!!
* أبطال الإيمان:
في الحقيقة إنّ أبطالَ الإيمان، من آباء الكنيسة الأوائل الذين نعرفهم، لم يكونوا أبطالاً على ورق، ولم يكونوا نُحاسًا يطنّ أو صنجًا يرنّ، بل كانوا أناسًا ملتهبين بمحبّة المسيح، حريصين على خلاص كلّ نفس.. أنكروا ذواتهم تمامًا لكي يَظهر ويتمجّد المسيح وحدَه.. كانوا دائمًا حريصين على سلام الكنيسة وبنيانها، وبذلوا مجهودات عظيمة لِلَمّ الشمل وتحقيق الوحدة الكنسيّة.. ومَن يَدرِس حياة القدّيس أثناسيوس والقدّيس كيرلّس الكبير على سبيل المثال، يدرك معنى ما أقول، في كيف أنّهم قبلوا بصياغات متعدّدة للإيمان مادامت تُعَبِّر عن الحقّ نفسه.
فالبطولة كانت في المحبّة والاحتمال وطول الأناة، والحرص على جوهر الحقّ في روح إيجابيّة، من أجل الإبقاء على سلام الكنيسة ووِحدتها.
* مفصليـن كلمة الحقّ بالاستقامة:
هذه الصفة اهتمّ القدّيس بولس الرسول بالتركيز على التحلِّي بها، في حديثه مع القدّيس تيموثاوس الأسقف (2تي2: 25)؛ ولهذا فنحن نصلّي كلّ يوم في القدّاس طالبين أن يُرسِل الربّ فَعلَةً إلى حصاده، من الذين يفصلون كلمة الحقّ باستقامة. وكأنّنا نؤكِّد أنّ هذه الصفة هي من أهمّ الصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها الراعي والخادم والمُعَلِّم.
كلمة الحقّ هي كلمة الله، والقَطْعُ بها في استقامة معناه أنّ التعليم الذي يقدّمه خُدّام الكنيسة -من أيّ رتبة- ينبغي أن يكون مستقيمًا، لا يحيد عن الحقّ، ويخلو من أيّة محاباة أو تَحَزُّب أو تشويش، أو خلط مع مبادئ العالم.. بل يتمّ تقديم رسالة الخلاص والمحبّة الإلهيّة والدعوة للملكوت، بحسب التسليم الآبائي النقي، من أجل بنيان كلّ نفس وخلاصِها في المسيح.
* سقيتكم لبنًا لا طعامًا
كان أهل كورنثوس في حالة روحيّة ضعيفة، وبينهم انشقاقات وتحزُّب، فنزل القدّيس بولس لمستواهم في الفهم، وبدأ يعِظهم بهدوء وطول أناة لكي يرتفع بوعيهم الروحي، قائلاً لهم: "أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ، بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَال فِي الْمَسِيحِ، سقيتكم لبنًا لا طعامًا.. لأَنَّهُ مَتَى قَالَ وَاحِدٌ: أَنَا لِبُولُسَ. وَآخَرُ: أَنَا لأَبُلُّوسَ. أَفَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ؟" (1كو3: 1-4).. وحدّثهم كيف تكون المحبّة (1كو13)، وأهمّية وحدانيّة القلب (1كو12)، والحرص على استثمار مواهب الروح كلّها للبنيان وليس للتشويش (1كو14).
كم نحتاج باستمرار لمراجعة هذه التعاليم ذات الأهمّية القصوى، لكي تُبنَى الكنيسة، ويُحفَظ سلامُها!
* ليكُن فيكم هذا الفكر
في حديث القدّيس بولس إلى أهل فيلبّي، اهتمّ جدًّا بالتركيز على وحدانيّة القلب التي للمحبّة، وصوّب كلامه على أهمّية إنكار الذات، لكي يمكن تحقيق الوحدانيّة، فقال:
"تَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا، لَا شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لَا تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِآخَرِينَ أَيْضًا. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا.. أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ، وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ، مَوْتَ الصَّلِيبِ" (في2: 2-8).
وهذا بالفِعل ما نحتاجه باستمرار في كنيستنا، أن ينكر الجميع ذواتهم على مثال المسيح إلهنا، وليبدأ أصحاب الرُّتَب الكهنوتيّة بالاتضاع والنزول إلى أسفل من أجل غسل الأقدام، ليكونوا قدوةً للجميع.. فهذه هي رسالة المسيح الحقيقيّة (يو13: 14-17)، وهكذا يتحقّق ما نصلِّي كلّ يوم من أجله: سلامًا وبنيانًا لكنيسة الله!
القمص يوحنا نصيف
يونيو 2024