د. منى نوال حلمى
مبدئيًّا أقول إن فى كل المجتمعات، وعلى مر العصور، وُجدت الجرائم. ومادامت العدالة غائبة، وهناك تفرقة بين البشر، على أساس الفلوس والنفوذ والدين والجنس والعِرق، فالجريمة ستبقى. والمجتمع المصرى مثل غيره من المجتمعات، شهد الجرائم من كل نوع. لكن الملاحظ أن الجرائم بشكل عام قد زادت، فى الكم، وفى درجة البشاعة. وما كان يُرتكب ليلًا على استحياء، أو فى السِر، أصبح يواجهنا علنًا، وبجرأة مستحدثة، وفى عز الظهر، حتى فى القرى، والكفور، والعزب، والنجوع، المعروفة بأنها بيئة مسالمة، تنفر من العنف، وأهلها يتعاملون كأنهم من عائلة واحدة، تأثرت بالجريمة فى المدن الكبرى.
بعد تأملاتى، خلصت إلى أن ما يسمونه «الصحوة الدينية»، التى وقعنا تحت احتلالها منذ سبعينيات القرن الماضى حتى الآن، هى المسؤولة الأولى عن تغير الجرائم فى مصر، كمًّا وكيفا، بل هى وراء الانحدار الأخلاقى، والتجريف الحضارى، والركود الثقافى الذى أصاب الوطن. وهذا ليس مستغربًا من منظومة دينية، تعادى كل القيم الحضارية الحديثة.
وإذا أضفنا المشكلات المزمنة فى واقعنا، فإن النتيجة هى إخراج أسوأ وأردأ النسخ الكامنة فى النفوس، كبت، وتطلعات، وانحيازات، وسلوكيات همجية، وغرائز بدائية، موروثة منذ قرون سحيقة. تعرضت الشخصية المصرية، منذ الصحوة، إلى تشويه مخطط، يقوده ويزعمه التدين الشكلى المُسيَّس لتأسيس مجتمع لا يكترث بأحوال الدنيا الفانية، من إجادة للعمل، والإنتاج، ومسؤولية الإنسان عن أفعاله، وقدراته على تغيير حاضره. أصبح الدين هو الطقوس الدينية من أجل الآخرة، لأننا لم نُخلق إلا للعبادة. المرأة قطعة لحم تُغطى منذ طفولتها بالحجاب، وظيفتها مضاعفة النسل بكثرة الإنجاب. وبالتالى يفقد المجتمع نصف طاقاته الإنتاجية.
خرجت علينا الفتاوى الدينية السلفية من أدراج التاريخ، تجرم الاختلاط، وتحرم الفنون، وعمل النساء، تبيح زواج القاصرات، وإرضاع الكبير، تمدح تعدد الزوجات، والتداوى بشرب بول البعير، والحجامة.
ولأن فكرة الوطن عند التيارات المتأسلمة الجهادية سعيًا للحكم غير معترف بها، حيث «الدين» هو الوطن، فقد اشتغلت على «تديين» القضايا الوطنية، وتفريغها من هويتها المصرية، حتى الظواهر الطبيعية، مثل الموجات الحارة الشديدة والزلازل، ما هى إلا غضب من الله، عقابًا على عدم تطبيق الشريعة.
وحتى تزدهر هذه الأفكار، لا بد من إشاعة مناخ عام من كراهية الآخر المختلف، وكراهية اكتشافات العلم الحديث، وكراهية الغرب الحاقدين على الدين، المتآمرين على الدين. ولا بد أيضًا من استمرار «تخويف» الناس ٢٤ ساعة يوميًّا من اقتراب القيامة، والثعبان الأقرع فى القبر، ونار جهنم الخالدة.
قبل هذه الصحوة، لم يكن المجتمع المصرى بهذا العنف والعدوانية، والكراهية، والذكورية، وكسب المال السريع دون جهد، وانتشار المخدرات، وبؤر الفساد الأخلاقى، والتحرشات الجنسية الصارخة، ورجوع الفتوات والبلطجية فى الشوارع، والهجوم الشرس على الفن، والموسيقى، وكل ما يخلق البهجة والفرح والاحتفال. وكانت قيمة الجمال حاضرة فى حياة أبسط البسطاء. الآن تلتصق البيوت بالقمامة المتراكمة، والتلوث السمعى بمكبرات الصوت، التى تتكاثر أسرع من معدل المواليد، ولا أحد يشعر، أو يفعل شيئًا. وهذا منطقى، فإذا كانت الحياة الآخرة هى «الهدف» و«الغاية»، فلا معنى لتجميل الحياة قبل الموت. ولذلك يتحول الاهتمام إلى بناء دُور العبادة والمدافن، بدلًا من بناء المستشفيات، والمصانع، والحدائق، ودُور الترفيه. فى أفقر قرية، نجد مئات من دُور العبادة المتلاصقة بميكروفوناتها، المفروشة بكل فخامة. بينما لا يوجد مستشفى واحد مجهز. وكأن مشكلة الوطن عام ٢٠٢٤ هى نقص الصلاة، وليس الفقر والمرض والجهل.
فى هذا المناخ المتضخم بالتدين، يصبح رجال الدين، والمشايخ، ومقدمو الإعلام الدينى، هم «النجوم»، المطلوب رأيهم فى كل شىء. والرسل والأنبياء، فى قرون مضت، يصبحون «المرجعية»، فى الفكر والسلوك. وقد ساعدتهم الظروف الاقتصادية الطاحنة على اكتساب المزيد من المصداقية، والشعبية، والنظر إلى الوطن، كعدو، لا يريد خيرًا للناس. بدلًا من اللغة المدنية، الصواب والخطأ، قانونى وغير قانونى، دستورى وغير دستورى، سادت اللغة الدينية، الحلال والحرام، دار دين، ودار كفر.. مسلمون وكفار ونصارى. إنها التربة الخصبة للتناقضات والازدواجيات، لتصبح أكثر نشاطًا، وبجاحة، والتى تقع فريستها الفئات الأضعف، النساء، والفقراء، والجهلة، وبسطاء العقول، والمهزومون، والمحبطون، واليائسون، والذكور الذين يعاملون طوال الوقت كشهوات جائعة محرومة من أى علاقة صحية سوية مع الجنس الآخر. لكنهم يربون على تمجيد الفحولة، وعلى الصيد الحلال، لكل أنثى تجرأت على ترك البيت إلى الفضاء العام.
النتيجة النهائية المطلوبة هى إنسان تملؤه التناقضات، يمشى بالازدواجيات، خائف، متخبط، يشعر بالضآلة واليأس، ذو عقلية خرافية هشة، يتأقلم مع القبح، يطارده الشعور بالذنب طوال الوقت بسبب حصار المحرمات، المتربصة بأبسط المباهج. إنسان حاضر العنف، لا يشعر بالأمان، دائم التعاسة والتجهم، متحفز للهجوم، سريع الاستفزاز من أتفه الأسباب. وفى لحظة، ينفجر، ويعتدى، ويسب، ويشتم، ويلعن، ويقتل، ويذبح بالسكاكين، ويخنق، ويحرق، ويضرب بالنار، أو بالفأس، أو بالشاكوش، أو بالمقص، أو بإيد الهون.
إن التيارات الدينية المسيسة تخدع الناس باسم الفضيلة، والعفة، والدين، وهى لا تهمها الفضيلة، ولا تبالى بالعفة، ولا تكترث بالدين، فهى تعلم علم اليقين أن الشعب المصرى يسلم عقله وحياته لأى أحد يتكلم فى الدين. الخراب هو الهدف وأى شىء يصيب مصر بالضعف، أو الانقسام، أو البلبلة، وأى خير لمصر تنقض عليه فورًا كالطيور المسعورة، وتُجهضه قبل الاكتمال.
هذه الأيام نحتفل بذكرى ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣. الثورة التى ستبقى دائمًا، لهذه التيارات المتأسلمة المسيسة، «شوكة فى الزور»، تمنعها من التنفس بطبيعية، وراحة.
الوفاء لثورة ٣٠ يونيو، التى أنقذتنا من بيع مصر، وتعليق المشانق فى الشوارع، وتكفين النساء وهن أحياء، وانتهاك كل معنى للحريات، والحقوق، والخصوصية، وأن نصبح بلدًا مثل أفغانستان لن يؤتى ثماره إلا بتدعيم صارم للدولة المدنية.
الدول المدنية، لا دين لها. لكن فى ظلها يحق لكل إنسان أن يكون له دينه، بشرط ألا يفرضه على الآخرين، وألا يخرج به إلى الفضاء العام. وهذه نقطة يجهل بها غالبية الناس. وبالتالى يجب نشر هذا الوعى، كأولوية قومية. إن الحكومة الجديدة، تضع «بناء الإنسان المصرى» من أولوياتها. السؤال كيف يتحقق ذلك، والإنسان فى مصر يعيش فى القرن الواحد والعشرين، بعقلية الإنسان فى القرن السابع.
خِتامه شِعر
الممدة على أريكة الزمن/ فى غرفتى.. منْ تكون؟/ كيف غافلتنى وانتحلت شخصيتى/ لبست ملامحى وبصمتى الوراثية/ احتلت بيتى.. فضحت أسرارى/ سرقت قصائدى ووهج أشواقى/ وارتمت بين أمواج البحر/ تقابل تحت الماء عشاقى/ مزقت ذكرياتى ومسودات أحلامى/ باعت سريرى وستائرى وفساتينى/ انتزعت الكفن الساتر عوراتى/ سكبت الحبر على أوراقى.
نقلا عن المصرى اليوم