أحمد الدريني
لم تسلم الكنيسة المصرية من غمز ولمز لما فتحت بعض الكنائس أبوابها أمام طلبة الثانوية العامة للمذاكرة فيها، فى ظل انقطاع الكهرباء الذى تعانى منه البلاد، خاصة أننا فى أيام امتحانات نهاية العام.
وتصدر رؤوس الفتنة وقالوا: مخططات تنصير أو محاولات لإغراء الطلبة المسلمين بالتحول إلى المسيحية، عبر الاستضافة والمعاملة اللطيفة.. ثم خلافه وخلافه وهلم جرا!.
ويسأل المرء نفسه.. حتى متى يقابل المسيحى المصرى هذا التشكيك فى نواياه وأفعاله، ويُعتقد ويروج أن هناك شيئًا غامضًا يخص تصرفات وبواعث غير وطنية أو غير إنسانية تكمن خلف سلوكه؟.
هذا مؤلم ومهين أن يعتقد البعض أن فئة أو طائفة أو أتباع ديانة كلهم بالكلية سيئون أو مراوغون أو مدعون، وأن الجميع ممسوخ على هيئة واحدة فقط، ولا يوجد تفاوت ولا خروج على النص والقالب، وأن الجميع هدفه تنصير مسلمى مصر!.
تصور كوميدى بائس.. كوميدى أسود.. قبل أى شىء.
يعكس جهلًا طويلًا ومتغلغلًا فى صفوف المجتمع المصرى منذ انتشرت شرائط الكاسيت مجهولة المصدر قبل عقود، وهى تحكى عن قساوسة تحولوا إلى الإسلام، ويكشفون أسرار الكنائس والأديرة، التى تخزن الذهب والأموال والسلاح.. والأسود التى يومًا ما سيتم إطلاقها لافتراس المسلمين!.
ومع انفتاح أجيال جديدة من المصريين على بعض عبر وسائل التواصل الاجتماعى، تحولت كل هذه السخافات إلى مجرد نكات، وباتت محل تنكيت من المسلمين والمسيحيين على حد سواء.
لكن هناك مَن لا يزال يزعق بها، وهناك مَن لا يزال يعتقد بها وبما هو على منوالها الخيالى من ترهات.
وللأسف، لم تلقَ هذه الشائعات المعاملة الحاسمة والحكيمة من الدولة وقت انتشارها قبل ثلاثة عقود تقريبًا، وتراكم جهل على جهل، فإذا نحن اليوم وبين صفوفنا مَن يعتقد أن طالب ثانوية عامة سيفقد إسلامه لأنه جلس فى قاعة مكيفة لاستذكار دروسه وشرب كوب نيسكافيه.
أعرف أننا كمسلمين ندرك أنها أصوات متخلفة وجهولة، ونختلف معهم طيلة العام فيما يخصنا كمسلمين، من أول قضايا الاحتفال بالمولد النبوى، وبجواز إخراج الزكاة نقودًا لا حبوبًا، وأحيانًا فى تحديد يوم عيد الفطر، وطوال الوقت حول موعد صلاة الفجر.. وليس انتهاءً بما هو أبعد من هذا من سلوكيات وعبادات.
هؤلاء محترفو تمايز ونشوز وشذوذ.. يبحثون عما يفرق قبل كل شىء حتى يظلوا فى نهاية المطاف متمثلين ومستدعين لمعنى من النجاة الفردية الأنانية التى ستحصلها طائفتهم وجماعتهم.
لكن لا أظن الأمر كذلك من منظور الجمهور المسيحى العام، الذى بات على قناعة بأن هناك مسلسلًا منظمًا للهجوم على المسيحية، وأن هناك «سماحًا» بحدوث هذا.
فهناك أسماء لأوجه بعينها لها حضورها وجمهورها على السوشيال ميديا تحترف «الرد على المسيحية» و«تفنيد شبهاتها» وما إلى ذلك من عناوين.
وهى وجوه لا تقدم محتوى دينيًّا مقارنًا، بمقدار ما تقدم جرعة طائفية ملآنة بالكراهية والاستفزاز والإهانة، تنتج على الضفة الأخرى مَن ينْجَرّون لتقديم محتوى متطاول وكاره.
المسألة باتت ثقافة عامة، فهناك مَن يحترف التشكيك فى المسيحية أو نقد بنيانها العقائدى، فيظهر بصورة مقابلة مَن يحترف التشكيك فى الإسلام، وتدور دائرة من التطاول تغذى بعضها بعضًا.
وهى مسألة بنت تصورات شعبوية مثيلة، فقد اصطدمت فى بواكير حياتى الجامعية والعملية بأن زملائى المسيحيين يعتقدون أن هناك حملات منظمة وذات طابع شعبى كاسح وتلقى تأييدًا متكاملًا من المسلمين، كل غرضها أسلمة الفتيات المسيحيات!.
ولما ضحكت وحاولت نفى المسألة، بل الاستفسار لِمَ الفتيات تحديدًا وحصرًا وليس الذكور أيضًا؟، كانوا مندهشين، إذ إنه من المفهوم ضمنًا لديهم أن كل المسلمين موافقون على هذا، وداعمون له، ويحركون شبكاتهم فى كل مكان لاصطياد الفتيات المسيحيات وتحويلهن إلى الإسلام.
وحاولت مرارًا التفريق بين انحياز أى طائفة أو ديانة أو حتى مشجعى نادٍ رياضى لما يعتقدونه، وترحابهم وسعادتهم بأى منضم جديد إلى الفكرة، وبين وجود سعى «منهجى» لضم أفراد جدد فى صفوف الديانة، كما لو كانت تنظيمًا لا ديانة.
لكن لا حياة لمَن تنادى.
هناك حرب خفية بين عنصرى أمة لأن هناك أفرادًا متهوسين على الجانبين، مشغولين بالأسلمة والتنصير بأكثر مما هم مشغولون بأنفسهم وبمَن هم على ديانتهم حقًّا.
وهو نموذج معروف من دعاة الفكرة- أى فكرة- والمُجندين والمُجيَّشين لصالحها.
لكن فى مسألة كالأديان وفى مصر، ومع عقود من أحداث الفتنة الطائفية المتزامنة مع نشاط جماعات الإسلام السياسى وخطابها، تتحول الدعاية للفكرة إلى دعاية للفتنة فحسب.
وللأسف مع الموجة الأخيرة من التشكيك فى الكنيسة ونواياها، ظهرت الأصوات التى طالما صدرت خطاب التطرف فى كل مناحى الحياة لتهاجمها بما هو مؤلم إنسانيًّا وغبى عقلًا وبداهة قبل أن يكون طائفيًّا وعنصريًّا وسخيفًا.. ولم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة تجاه هذه الأصوات.
رغم أنه ولو كان لابد من طرف يتلقى هجومًا ونقدًا وتشكيكًا فيه.. فهو الحكومة نفسها التى فشلت فى توفير الكهرباء.. لا الكنيسة!.
دعك من أن طالب الثانوية العامة المتوتر، الذى يحس بضغط نفسى رهيب، يزداد ارتباكه مع انقطاع الكهرباء وعدم قدرته على تحصيل ما سبق أن ذاكر، فآخر ما يفكر فيه هو مراجعة معتقده الدينى والتفكير فى دخول ديانة أخرى!.
نقلا عن المصرى اليوم