عاطف بشاى
«قصص وروايات (يوسف إدريس) لا تصلح للسينما» العبارة السابقة أطلقها الناقد الكبير «سمير فريد» فى ندوة يديرها حضرتها فى التسعينيات عن إبداعات «يوسف إدريس» الأدبية وعلاقتها بالأفلام المأخوذة عنها.. وعلل رأيه بعوامل، أهمها المحظورات الرقابية المتشددة.. عقبت مؤكدًا أن هناك أفلامًا جيدة عُرضت وحققت نجاحًا كبيرًا فنيًّا وجماهيريًّا، وأغلبها عن قصص وروايات لنجيب محفوظ، منها «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» و«الكرنك» و«المذنبون»، وكتب لها السيناريو والحوار الأستاذ «ممدوح الليثى»، الذى وضع اسمه فى مقدمة كُتاب السيناريو للسينما السياسية فى «مصر» فى تاريخها كله، وذلك فى استفتاء نظمه مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته العشرين.. وتحتشد تلك الأفلام بمحظورات هائلة سياسية وجنسية.. فى ظل أزمنة كانت تزخر بالتضييق على حرية التعبير.
وأكدت أن السينما لم تستطع أن تنهل من بحر أدب «يوسف إدريس» وعمق رؤيته.. بل شوهت أكثرها مثل «العيب» و«حادثة شرف» و«قاع المدينة» و«مشوار» و«العسكرى الأسود».. إلخ.. ولم تكن الأسباب لها علاقة بالمحظورات، وإنما لتواضع مستوى السيناريوهات وافتقار كُتابها إلى الموهبة والقدرة على استيعاب عمق تلك القصص، التى تحمل قضايا اجتماعية ونفسية وإنسانية وفلسفية وإفلاسهم فى التعبير عنها، ومنها مثلًا فيلم «العسكرى شبراوى»، المأخوذ عن قصة «مشوار» لـ«يوسف إدريس».
بطل قصة «مشوار» شرطى ريفى بسيط فى مركز شرطة قرية صغيرة.. كانت «مصر» إذا جاءت سيرتها يرتد عقله بسرعة إلى الأيام الخوالى التى قضاها بها فى الجيش، حيث كان يذرع مصر من مشرقها إلى مغربها كل أسبوع.. ويحلم بمعاودة زيارتها.. ويأتى الفرج حينما تدخل جماعة إلى المركز ومعهم امرأة مجنونة ومعها أهلها وأقاربها تملأ المكان صراخًا.. يستيقظ الأمل فى عقل «شبراوى»، فلا مناص من إرسال المرأة إلى مستشفى الأمراض العقلية مع مخصوص إلى القاهرة، ويسعى ليكون هو هذا المخصوص، ويصل برفقة المرأة إلى المحطة، ويحيط بهما ما يزيد على المائة نفر، وكلهم يوصونه خيرًا بـ«زبيدة»، وأن يكون صبورًا معها.. يتحرك القطار، و«زبيدة» تثير زوبعة.. تزغرد.. ثم تصرخ فى هيستريا: «يسقط عمدة بلدنا.. يعيش جلالة الملك محمد بيه أبوبطة».
تُفزع الركاب الذين يهرولون مبتعدين.. و«زبيدة» تحاول خلع ثوبها.. يذهل «شبراوى»، الذى يعجز عن السيطرة عليها.. وعندما يصلان إلى القاهرة.. فى الشوارع لا تكف عن الهلوسة والصراخ، ويتحلق الناس تباعًا حولهما.. يصل «شبراوى» إلى القاهرة، ويسير بها إلى المحافظة، ويسأل العسكرى الواقف أمام باب المحافظة عن الطبيب.. يخبره أنه انصرف، وعليه العودة فى الصباح.. يتوسل إليه «شبراوى»، وهو يسأل إن كان ممكنًا ترك زبيدة فى المحافظة حتى الصباح.. يزجره العسكرى، فينسحب بـ«زبيدة»، ويمضى فى انهيار وحيرة.. ولم يجد أمامه حلًّا إلا قسم البوليس.. ذهب بها إلى قسم «السيدة»، لكن «الشاويش» النباطشى رفض، مؤكدًا له أن ذلك مسؤولية يعاقب عليها.. وينتهى الأمر بـ«شبراوى» يتربع بها أمام جامع السيدة زينب. وحين زغردت «زبيدة» ضاع صوتها فى تمتمة الشيوخ ودومات الذكر.
وتتجلى عمق الرؤية فى قصة «يوسف إدريس» وبراعته فى تجاوز البُعد الاجتماعى والنفسى إلى البُعد الفلسفى، وهو يصور موقف «شبراوى»، وهو يتحول من قمة السخط والانهيار والتعاسة.. ويبدأ يخرج من نفسه ومن غيظه.. فلم يعد فيما تفعله «زبيدة» غرابة أو شذوذ، وفى الواقع كان هو الغريب الشاذ بين هذا الجمع، وكان هو الوحيد التعيس، وتمنى أن يفقد عقله حتى ينجذب ويسعد مثلهم.. يقول «يوسف إدريس»: «بدأ (شبراوى) يرمق ما يدور حوله، وكان ما يدور مسليًا.. فلا أحد يسأل الآخر ماذا يفعل أو ينهاه عن فعله.. ثم تتثاءب (زبيدة)، وتروح فى النوم ويتنفس (شبراوى) الصعداء..».
وفى النهاية يذهب بها إلى قصر العينى لتوضع تحت الملاحظة، لكن الطبيب يقرر أنه لا مكان لها فى قسم الملاحظة، ولابد من وجود أحد أقاربها.. وفى لمح البصر تخلع «زبيدة» ثوبها، وتندفع جارية إلى حوش المحافظة، ويجرى خلفها «شبراوى»، ويحرر الطبيب الاستمارة على عجل.. ويأتون بقميص الأكتاف، وترتديه، ويدفعونها داخل العربة، وهى تزغرد.. و«شبراوى» يطلب من السائق أن ينتظر دقيقة، ويجرى ليشترى رغيفًا وحلاوة طحينية، ويعطيهما للعسكرى الذى يرافقها ويوصيه بها.. وتمضى العربة، ويتسلل «شبراوى» إلى المحطة مباشرة، وقد شبعت نفسه من مصر ومن الدنيا كلها.
شُوهت قصة «مشوار» عند تحويلها إلى فيلم «العسكرى شبراوى» تشويهًا بالغًا أطاح بمغزاها الإنسانى العميق، فمن الواضح أن كاتب السيناريو «أحمد الخطيب» كان يعانى عدم قدرته على تحويل قصة قصيرة تعتمد على تفاصيل يبرع فى تجسيدها «يوسف إدريس» فى مواقف ذات دلالات متعددة.. هذه التفاصيل بقدر ما هى موحية لبناء درامى يصنع منها أحداثًا متصاعدة فى اتجاه صراع ملموس بقدر ما تحتاج إلى كاتب سيناريو موهوب قادر على تطوير الأحداث، بحيث تتماهى مع الفكرة الأساسية العميقة للأديب الكبير.. فسعى إلى معالجة سينمائية تتسم بالسطحية والسذاجة تنحرف إلى هزل ممجوج، متصورًا أنه كوميديا افتعل فيها سببًا ميلودراميًّا للوثة العقلية التى أُصيبت بها «زبيدة»، هو معاملة زوج أمها السيئة لها واستغلالها بالاستيلاء على ملكيتها الصغيرة، وحينما احتجت وثارت عليه، وصمها بالجنون، وزفتها القرية فى مشهد مروع.. ويكتشف «شبراوى» فى النهاية أنها لم تفقد عقلها، ولكنها كانت ضحية مؤامرة حاكها زوج أمها، وهكذا، فالفيلم مزيج من الأحداث الملفقة وغير المنطقية، فى فيلم ردىء، تبرأ منه «يوسف إدريس».
نقلا عن المصرى اليوم