القمص يوحنا نصيف
    قدّم الربّ يسوع المسيح هذا المثل لقومٍ واثقين بأنفسهم أنّهم أبرار، ويحتقرون الآخَرين (لو18: 9-14)، ويُعَلِّق القدّيس كيرلّس الكبير على هذا المثل بمجموعة تأمُّلات غنيّة جدًّا، أقتطِف في هذا المقال بعضًا منها:

    + يا مَن تُحِبّون التعليم وتتوقون إلى الإصغاء، اقبَلوا مرّة ثانية الكلمات المقدّسة، وأبهِجوا أنفسَكم بعسل الحكمة، لأنّه هكذا هو مكتوب: "الكلمات الحسنة شهد عسل، وحلاوتها شفاء للنفس" (أم16: 24 سبعينيّة). لأنّ عسل النحل حلو جدًّا وينفع نفس الإنسان بطُرُق كثيرة، أمّا العسل الإلهي الخلاصي فيجعل أولئك الذين يستقرّ فيهم ماهرين في كلّ عمل صالح، ويعلِّمهم طرق التقدُّم الروحي.

    + يُعلِّمنا المُخَلِّص بأيّ طريقة ينبغي أن نُقَدِّم طلباتنا إليه، حتّى لا يكون فِعل الصلاة بلا مكافأة لِمَن يمارسونه.. أتوسَّل إليكم أن تنظروا شاهِدًا على هذا، مُصَوَّرًا بوضوح في هذا المَثَل الموضوع أمامنا. إنسانٌ صَلَّى وأُدِينَ لأنّه لم يُقَدِّم صلاته بحكمة..

    + يُسَمِّي مَن كانا يصلِّيان "إنسانان" (صعَدَا إلى الهيكل ليصليا)، فهو لا ينظر إلى الغِنى أو القوّة، بل ينظر إلى التساوي الطبيعي بينهما، ويَعتَبِر كلّ الذين يسكنون على الأرضِ بَشَرًا، كما لا يختلِفون في شيءٍ عن بعضهِما البعض.

    + واضحةٌ تمامًا أخطاء الفرّيسي الكثيرة، أوّل كلّ شيء هو منتفِخ وعديم الفهم لأنّه امتدح نفسَه، مع أنّ الكتاب المقدّس يصيح عاليًا: "ليمدحك الآخَر لا فمك، الأجنبي لا شفتاك" (أم27: 2 سبعينيّة).

    + أولئك الذين يعيشون في ممارسة الأعمال الصالحة المُقَدَّسَة هم غير مستعدِّين بالمرّة أن يُنصِتوا لكلمات المُداهِنين، بل حتّى وإن امتدحهم الناس، ففي الغالب يغطّيهم الخجل، كما يُخفِضون أبصارَهم إلى الأرض، ويلتمسون الصمتَ من أولئك الذين يمتدحونهم. أمّا هذا الفرّيسي الذي لا يستحي، فإنّه يمتدح نفسَه ويُمَجِّدها على أنّه أفضل من الخاطِفين والظالمين والزُناة. ولكن كيف فات عليك أنّ كونَ الإنسان أفضل مِمَّن هُم أردياء لا يُثبِت بالضرورة أنّه يكون جديرًا بالإعجاب، بل حريٌّ بِكَ أن تنافِس أولئك الذين يَفضُلُونك، فإنّ هذا هو الأمر النبيل والمُكَرَّم.

    + يلزم ألاّ تتلوّث فضيلتنا بالخطأ، بل ينبغي أن تكون مُخْلِصةً وبلا عيب.. لأنّه ما المنفعة في أن تصوم مرّتين في الأسبوع إن كنتَ تفعَل هذا فقط كمُبَرِّر لجهلك وغرورك، وتصير متكبِّرًا وأنانيًّا ومتشامِخًا؟ أنت تعطي عُشْرَ ممتلكاتك وتتباهى بهذا، ولكنّك من ناحية أخرى تُثير غضب الله بإدانتك للناس عمومًا، واتّهامك للآخَرين وأنت نفسك منتفخ.. وتُكَدِّس المديح لنفسِك.

    + أيّها الفرّيسيّ هَدِّئ نفسك "وضَعْ بابًا ومزلاجًا للسانِك" (مز140: 3 سبعينيّة). فأنت تُكَلِّم الله الذي يعرف كلّ الأشياء. انتظر حُكمَ الديّان.. لا ينال أحدٌ الإكليل من ذاته بل ينتظِر استدعاء الحُكم. خَفِّضْ من غلوائك، لأنّ العجرفة ملعونة ومكروهة من الله. لذلك فلأنّك تصوم بذِهن منتفِخ، فبفعلِك هذا لن تنتفع شيئًا، وتعبك سيكون بلا مكافأة، إذ خلطتَ الرَّوَثَ مع الطِّيب!

    + حيث إنّ صومك مصحوب بالكبرياء، فيجب أن تتوقَّع أن تسمع الله يقول: "ليس هذا صومًا أختاره يقول الربّ" (إش58: 5). أنت تُقدِّم العشور، لكنّك بطريقة أخرى تُسيء لِمَن تُكرِمُه، بكونِكَ تُدين البشر عمومًا. هذا تصرُّف غريب عن الذِّهن الذي يخاف الله، لأنّ المسيح نفسه قال: "لا تدينوا لكي لا تُدانوا، لا تقضوا على أحدٍ فلا يُقضَى عليكم" (لو6: 37).. لأنّ الإنسان ذا الصحّة الجيّدة لا ينبغي أن يسخَر من إنسانٍ مريض بسبب أنّه مُلقى وطريح الفِراش، بل بالحريّ يخاف لئلاّ يصير هو نفسه ضحيّة لآلام مُشابِهة.

    + لكن ماذا عن العشّار؟ ها أنت تراه يمتنع عن كلّ جسارة في الكلام، كَمَن ليس له حقّ في ذلك، وهو مضروبٌ بتأديبات الضمير.. ها أنت ترى أيضًا أنّه يدين شقاء نفسه.. ويشعر بالخزي بسبب سلوكه، ويخاف من دَيَّانِهِ، ويقرع صدره ويعترف بخطاياه؛ وكأنّه يُظهِر مرضه للطبيب ويتوسّل طالبًا الرحمة. ماذا كانت النتيجة؟ لنسمع ما يقوله الديّان: "هذا نزل مبرَّرًا إلى بيته دون ذاك".

    + لذلك فلنُصَلِّ بلا انقطاع، بحسب تعبير بولس الطوباوي (1تس5: 17)، ولكن لنحرص على أن نعمل ذلك بطريقة صحيحة. إنّ محبّة الذّات لا تُرضِي الله، وهو يرفض الكبرياء الفارغة والنظرة المتشامِخة والانتفاخ.. حتّى ولو كان الإنسان صالِحًا ومتّزِنًا فلا ينبغي أن يسقط في كبرياء مُخجِلة، بل بالحريّ فليتذكَّر المسيح الذي يقول لرسلِهِ القدّيسين: "مَتّى فعلتم كلّ ما أُمِرتُم به، فقولوا إنّنا عبيد بطّالون لأنّنا إنّما عملنا ما كان يجب علينا" (لو17: 10). لأنّنا مديونون لله فوق الكلّ، فيلزمنا بالضرورة أن نخدمه كعبيد، وبطاعة مستعدّة في كلّ الأمور.

    + رغم أنّك تعيش حياة فائقة وممتازة، فلا يجِب أن تسأل من الربِّ أجرةً، بل بالحريّ أن تَطلُب منه عطيّة؛ وهو لكونِهِ صالحًا سوف يعطيك، وكأبٍ مُحِبٍّ سوف يساعدك. لذلك لا تمتنع عن أن تقول: "اللهم ارحمني أنا الخاطئ"، وتذَكَّر مَن يقول على فم إشعياء: "أظهِر خطاياك أوّلاً لكي تتبرّر" (إش43: 26 سبعينيّة).. افحَص كلمات القدّيسين، لأنّ أحدهم يقول: "البار يلوم نفسه في بداية كلامه" (أم18: 17 سبعينيّة)، وآخَر يقول: "قلتُ اعترِفُ للربّ بإثمي، وأنت غفرتَ لي إثمَ قلبي" (مز31: 5 سبعينيّة).

    + إنّ الله يبرّر بالتأكيد مَن يعرِفون تعدّياتهم جيِّدًا، وهم مستعدّون للاعتراف بها.. لذلك نقول: "إنّنا في أشياءٍ كثيرة نعثُر جميعًا" (يع3: 2)، ولا يوجَد أحدٌ خالٍ من دنسٍ حتّى ولو كانت حياته يومًا واحِدًا على الأرض. إذن لنسأل الرحمة من الله، فإنْ فعلنا ذلك فإنّ المسيحَ سوف يُبَرّرنا.
 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 119) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف