عبد الله السناوى يكتب:
لا تتلخص أسئلة التشكيل الوزاري الجديد، فيمن دخل أو خرج.
استبدال الجياد لا يعني بالضرورة تغيير المضمار.
هذه حقيقة سياسية.

اتساع نطاق التغيير في المجموعة الاقتصادية، لا يعني أنها مسئولة وحدها عن الأزمة الخانقة التي وضعت مصر على حافة الإفلاس.
وهذه حقيقة أخرى.

ما حدود التغيير، إذا كان التغيير مستهدفا؟!
يصعب أي رهان على تجاوز حزام الأزمات الذي يحيط بمصر، وبعضها يتعلق بمصير البلد، أمنه المائي وأمنه الحدودي، أو أن يوضع اقتصادها على طريق التعافي، إذا لم يحدث تعديل جراحي في السياسات والأولويات وتحسين جوهري بالمجال العام.

يتناثر الآن في المجال الإعلامي كلام كثير عن أولويات الحكومة الجديدة، لكنه عمومي، ويفتقر إلى أي تحديد على شيء من التماسك والإقناع.
غادرت أسماء، بعضها يمثل عبئا على النظام نفسه.. وقدمت أخرى أغلبها بلا سجل، يزكيها أمام الرأي العام.

كان إعادة تكليف رئيس الحكومة المستقيلة الدكتور “مصطفى مدبولي” بتشكيل الحكومة الجديدة داعيا إلى إحباط عام ورسالة سلبية، بأن السياسات والأولويات باقية على حالها.

لم يكن جديدا، ولا مستغربا أن تعتذر بعض الشخصيات الكفؤة والمؤهلة عن تولي أية مهام وزارية.

الجديد والمستغرب، ويستحق وقفه جادة وصريحة للتدقيق في أسبابها ودواعيها، أن تأخذ الاعتذارات صفة الظاهرة باتساع غير مسبوق.
إذا لم نتصارح بالحقائق بكل الجدية والمسئولية، فإننا سوف نصطدم لا محالة بتداعياتها، وتكون العواقب أوخم من أي تصور.

لمس الرئيس “عبدالفتاح السيسي” الظاهرة المستجدة، فيما يشبه الشكوى المعلنة أمام “المؤتمر الاقتصادي مصر 2022؛ بحثا عن خارطة طريق لاقتصاد أكثر تنافسية”.

قال حرفيا إن أعدادا كبيرة من ذوي الخبرات والكفاءات باتوا يحجمون عن تولي أية مهام وزارية خشية على تاريخهم، أو لقلة العائد المالي قياسا على دخولهم.

كان ذلك من أسباب تأخر إعلان التشكيل الوزاري لشهر كامل.

اجتمع “مدبولي” مع أعداد أكثر مما هو معتاد من المرشحين، دون أن تتوافر أمامه فرص، يعتد بها لإسناد المهام الوزارية إلى أسماء لها خبرتها وسمعتها المهنية.

ترددت من جديد أصداء الشكوى الرئاسية في الأروقة الرسمية ضجرا من حجم الظاهرة دون تدبر لرسائلها.
أحد الأسباب الجوهرية، التي أفضت إلى اتساعها، ما جرى في ذلك المؤتمر الاقتصادي.
لم يسفر عن أية مخرجات نفذت، ولا كان هناك أدنى تعديل على السياسات وضع في الاعتبار.

في جلسته الختامية، وصف الرئيس مخرجاته، بأنها يمكن أن يكتبها طالب في الفرقة الأولى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية!

كانت تلك إساءة غير محتملة نالت من النخب الاقتصادية، التي شاركت في المؤتمر بأمل المساعدة على إنقاذ البلد، مما وصلت إليه أحواله.
ربما لم تكن مقصودة، لكنها عمقت نزعات الإحجام “احتراما لتاريخها”.

مرة أخرى، تبدت فرصة جديدة لتبادل الرؤى والمقترحات في أعمال “الحوار الوطني”، لكنها أهدرت عمليا.
تحول الحوار إلى مؤسسة رسمية، تُستدعى من وقت لآخر لإعطاء انطباع، أن هناك حوارا يجري حول القضايا التي تدخل في شواغل المواطنين، دون أن يتوافر فيه أي التزام بمخرجاته.

السؤال هنا ضروري: أين مخرجات الحوار الوطني؟!
عندما نُحيت مخرجاته فقد الحوار معناه ومغزاه وجديته وحرمته، فيما كان يفترض فيه أن يكون طوق إنقاذ للبلد من أزماته المستحكمة.
أخطر رسائل ظاهرة الاعتذار عن المشاركة، شيوع ما يشبه اليأس العام من أي إصلاح ممكن.

إنها أجراس إنذار تدوي في المكان.
تقليديا ومتوارثا في بلد كمصر أن يجري التدافع على السلطة لنيل جوائزها، لا الابتعاد عنها بذريعة أو أخرى.

عندما تشكلت حكومة الدكتور “أحمد نظيف” عام (2004)، نسب إلى أحد أركانها من كبار رجال الأعمال المهندس “رشيد محمد رشيد” قوله في لقاء خاص مع أصدقاء شخصيين: “أنتم لا تعرفون معنى السلطة.. النفوذ السياسي أهم من النفوذ المالي”!

ما الذي جرى الآن حتى أصبح المنصب الوزاري سحبا من رصيد تاريخ واحترام ومهابة؟!
قبل إعادة تكليف “مدبولي”، ترددت أسماء لها وزن دولي لإسناد رئاسة الحكومة إليها كالدكتور “محمود محيي الدين”.

اصطدمت الفكرة بحدود الصلاحيات التي يمكن أن تحوزها حكومة برئاسته، أراد ألا يكون مجرد سكرتير تنفيذي آخر للسياسات نفسها.
تعبير “سكرتارية الرئيس”، ينسب إلى نائب رئيس الوزراء وأمين عام الحزب الوطني الأسبق الدكتور “يوسف والي”.

كان نظام “حسني مبارك” قد استنزف طاقته على البقاء عام (2005)، لكنه امتد إلى يناير (2011) بفضل اتساع للحريات الصحفية والإعلامية بصورة غير مسبوقة في التاريخ المصري الحديث كله.

في يوليو من ذلك العام، دعا الرئيس الأسبق بخطاب انتخابي ضمن حملته لتمديد رئاسته من مدرسة “المساعي المشكورة” بشبين الكوم، التي تلقى فيها تعليمه الثانوي، إلى إحداث تعديل جوهري على صلاحيات مجلس الوزراء.

دعا بالحرف إلى: “تعزيز دور مجلس الوزراء وتوزيع اختصاصاته وتوسيع المدى الذي تشارك فيه الحكومة رئيس الجمهورية في أعمال السلطة التنفيذية”، لكنه كان كلاما محلقا في الفراغ السياسي.

انتظرت مصر نحو ثمان سنوات، حتى دستور (2014)، الذي صدر بأعقاب ثورة (30) يونيو (2013)، حيث تضمن نصا ملزما بشراكة حقيقية لمجلس الوزراء في صنع السياسات العامة مع رئيس الجمهورية، لكنه ظل محلقا في نفس الفراغ السياسي.

المشكلة الأفدح أن السياسات تصنع خارج الحكومة.
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، أو غض الطرف عنها.
قد يقال إنها من مواريث ثورة يوليو (1952)، لكن إطلاق الكلام على عواهنه يتحامل على التاريخ في غير موضعه.

في سنوات يوليو طرح سؤال.. لمن تسند المهام العامة:
أهل الثقة أم أهل الخبرة؟
الثوريون أم البرجماتيون؟
المدنيون أم العسكريون؟
السؤال بتنويعات صياغته يطرح نفسه حتى اليوم، دون إجابة تنظر في أسماء من تولوا المهام العامة، ومدى الصلاحيات التي حازوها، ومستوى الكفاءة التي أبدوها.

لا يمكن الادعاء، أن المشروعات الكبرى أسندت إلى أهل الثقة على حساب أهل الخبرة، أو أن المدنيين استبعدوا لحساب العسكريين.
على سبيل المثال أسند ملف التصنيع إلى الدكتور “عزيز صدقي”، وملف الزراعة إلى المهندس “سيد مرعي”، وملف تحديث شبكة الاتصالات والطرق والسكك الحديدية إلى الدكتور “مصطفى خليل”.

نجحت “يوليو” في استقطاب وتوظيف الكفاءات المتخصصة، وأغلبها حصلت على تعليم متقدم في الجامعات الغربية، داخل مشروع، أخذ يكتسب بالوقت معالمه الواضحة وتوجهاته المحددة.

لأسباب تتعلق بطبيعة القوة، التي تولت التغيير في “يوليو”، اتسعت أدوار العسكريين في بنية مؤسسات الدولة، وزاد منسوب الأدوار الأمنية؛ خشية انقضاض ما من الداخل أو الخارج على الثورة الوليدة.

تبدت قوة المشروع في مدى الخبرات التي توافرت له، وتصميمه السياسي على إحداث تحول جذري في بنية المجتمع المصري، غير أن ضرورات تأمينه تجاوزت في أحوال كثيرة حدود أدوارها إلى تغول وجد مأمنه في الأقبية السرية.

تجربة يوليو تستحق المراجعة، حتى ندرك كيف جرى النيل من مشروعها من داخل نظامها لا من خارجه.

في الحصاد الأخير لأهم تجاربنا الحديثة، تأكدت ضرورات إسناد ما هو من طبيعة العمل العسكري إلى أهله الأكفاء، وإسناد ما هو من طبيعة المجتمع المدني إلى أصحابه المختصين، دون خلط في الأدوار.
أي خلط يسيء إلى الأطراف كلها.
نقلا عن موقع مصر ٣٦٠