أحمد الخميسي
يحدث أحيانا أن تصادف رجلا غير متعلم, لم يدخل حتى المدرسة، ومع ذلك فإنه يدهشك بحكمته وصواب نظرته إلى الحياة والبشر، ولعل ذلك يعود إلى أن الثقافة كما لاحظ مكسيم جوركي ليست الكتب وحدها، لكنها أيضا التجارب التي نعيشها ونستخلص منها قوانين الحياة ودروسها.

وفي ذلك السياق مرت بي أحداث صغيرة علمتني ربما ما لم تعلمني إياه الكتب، بعض تلك الأحداث وقع في الطفولة، هناك حيث لا ينسى المرء شيئا تقريبا، وكان أولها الدرس الذي تعلمته من الرجل الصعيدي الذي لا أذكر اسمه، لكني أكاد أرى ملامح وجهه العنيدة الآن، وخطواته النشطة وهو يتجه للدفاع عن كرامته بما في وسعه.

كان الصعيدي يسكن كوخا بناه بيديه على ترعة فيصل جوار بيتنا وكان يعيش على صناعة الفخار من قلل وما شابه، وعلى امتداد شاطئ الترعة بعيدا عن الصعيدي بنحو مئتي متر ارتفعت فيلا الألفي الفاخرة التي اشتهرت في الحي بأنها فيلا الضباط نظرا لأن أبناء صاحب الفيلا كانوا جميعا من الضباط. ولا أذكر بل ولا أدري ما الذي جرى، لكن المؤكد أن أحد أولئك الضباط الشبان أهان الرجل الصعيدي بكلمة أو إشارة. وكانت ملامح الصعيدي المقهور المحفورة بالعناد تلتهب من الغضب والعجز لأنه يعلم أنه لا يسعه أن يرد بشكل مباشر على ابن الأسرة الكبيرة، لكننا فوجئنا بعد ذلك بالرد الذي توصل إليه الصعيدي، فكان يصحو صباح كل يوم، ويمد خطاه نحو الفيللا ويجلس أمام بوابتها ويتبرز هناك، ويترك مخلفاته تلك ويرجع إلى الكوخ. وتحول الأمر إلى مشكلة في الحي، وكان الصعيدي يرد : الشارع ملك الحكومة، ويعود صباح اليوم التالي إلى فعلته.

وفي نهاية الأمر قام بعض الطيبين بعقد جلسة صلح فكف الصعيدي عن الانتقام لكرامته. علمتني هذه الحادثة الصغيرة للأبد أن بوسع الانسان دائما أن يرد الاهانة، أيا كان وضعه، أو قدراته، وأن الكرامة ليست مرتبطة بما تستطيع لكن بما تريد.

في موسكو تلقيت درسين من حادثتين صغيرتين، الأولى كانت وأنا في واقف المترو، وكانت تجلس أمامي سيدة عجوز وعلى حجرها حقيبة ثقيلة، ومع توقف المترو في إحدى المحطات رأيتها تهم بالوقوف، فمددت لها يدي لأساعدها، فقالت لي ما أذهلني، قالته برقة ومحبة : لا تساعد الانسان مادام يستطيع أن يقوم بالأمر بنفسه، لأنك بذلك تجعله يعتاد الكسل، فيفقد قدرته على الحياة! الحادثة الثالثة الصغيرة التي شكلت درسا كبيرا كانت في مبنى الطلاب الذي أقمنا فيه فترة الدراسة في موسكو، وكانت تجلس في مدخل المبنى عادة امرأة عجوز تراجع بطاقات الداخلين إلى المسكن، وكنا عادة نقدم لأولئك النساء هدايا رمزية في عيد المرأة مثل علبة شيكولاطة أو باقة ورد، وبطبيعة الحال لم نكن ننتظر منهن مقابل ذلك أي شيء. واعتدت أن أقدم الهدايا بدون انتظار لمقابل، حتى جاءت امرأة جديدة ذات يوم، ما زلت أذكر اسمها، نحيفة، ودقيقة كالساعة، فقدمت لها هدية في عيد المرأة، حتى حل عيد الرجل، وكانوا يعتبرون أن يوم الجيش السوفيتي عيد للرجل عامة، ففوجئت بها تحمل إلي باقة ورد، لم تشترها، لكنها قطفتها من زهور الحديقة العامة بالجامعة، فتوقفت مذهولا دقائق، لكي أتلقى درسا جديدا، أن الشكر والعرفان لا يتوقف على مقدرتك، وأن بوسع الانسان إذا شاء أن يظهر تقديره أن يجد الوسيلة مهما كان وضعه الاجتماعي أو ظروفه المادية، وأن الأمر لا يتوقف على ما لديك بل على ما في داخلك من مشاعر. هي أحداث صغيرة ظلت دروسها الكبيرة عالقة بنفسي إلى الآن، بالقدر الذي علقت بنفسي دروس الكتب العظيمة.   
نقلا عن الدستور