وجيه وهبة
■ «الأمشجية»، مهنة تعود إلى القرن التاسع عشر، يمتهنها رجال يرتدون سراويل بيضاء وطواقى أو طرابيش حمراء، حفاة الأقدام، وعملهم هو الجرى أمام عربات الشخصيات المهمة التى تجرها الخيول، وهم يتصايحون بعبارات لإفساح الطريق ويلوحون فى الهواء بعصى من الخيزران، أو بأسواط من الجلد.
فى عام ١٨٩٨، اسْتُقْبِلَ «لورد كرومر» استقبال الفاتحين- كالعادة- حين دخل حوش مدرسة التوفيقية بشبرا، بعربته الفاخرة يتقدَّمها سايسان، (أمشجية)، وما إن وقفت العربة أمام مكتب الناظر، حتى استلقى الأمشجية على السلم يلهثان بشدة وسرعة، ويتصبَّب منهما العرق بكثرة فى إعياء بالغ يُثير أقسى القلوب، فقد كانا يجريان بسرعة الخيل من قصر الدوبارة (مقر «كرومر» بجاردن سيتى) إلى قصر النزهة (مدرسة التوفيقية).
حزَّ هذا المنظر المثير فى نفس طالب بالمدرسة بالقسم الداخلى؛ فأرسل إلى اللورد خطابًا مجهلًا بتوقيع «طالب بالمدرسة التوفيقية»، يقول فيه: «إن نظام السياس (الأمشجية) لا يتفق ومعالم المدنية الغربية، ويتعارض مع تعاليم الديانة المسيحية التى تنتمون إليها، وهو أثر من آثار الرق الذى ورثناه عن عهود الذل»، وطلب منه أن يلغى هذا النظام، فيكون قدوة لسائر القناصل والأمراء والباشوات. وكم كان فرح هذا الطالب عظيمًا حينما شاهد، بعد أسبوع من إرساله الخطاب، «لورد كرومر» يجول فى شوارع القاهرة، غير مصحوب بالسياس (الأمشجية)، وأن «سائر قناصل الدول قد حذوا حذوه بعد ذلك، وكذلك الباشوات والأمراء»!.
كان اسم هذا الطالب النبيل، الذى تسبب فى توقف هذا التقليد غير الإنسانى، هو «صليب سامى»، (١٨٨٥؟-١٩٥٨)، والذى أصبح فيما بعد «صليب باشا سامى»، رجل القانون الذى تولى العديد من مواقع المسؤولية المهمة، ثم العديد من الوزارات، قبل «يوليو ٥٢»، وفى حكومات مختلفة، فقد تولى وزارات الخارجية والحربية والبحرية والتموين والصناعة والتجارة والزراعة. وكان لصليب سامى بصمة متميزة فى كل موقع تولاه.
■ قبل رحيله عن عالمنا، ترك لنا «صليب باشا سامى» كتابًا سماه «ذكريات١٨٩١- ١٩٥٢»، وذلك توخيًا للدقة. وعلى الرغم من أن الكتاب ليس بمذكرات وافية ولا بيوميات، فإنه يتضمن لقطات ومواقف شديدة الأهمية ومتعددة الأبعاد لمَن يتوخى قدرًا كبيرًا من الحيدة فى التأريخ لما يزيد على نصف القرن من تاريخنا السياسى والاجتماعى الحديث، مادة تاريخية غير ملونة بألوان حزبية «فاقعة»، بقلم رجل احترمه وقدره الجميع من كافة المِلَل والنِّحَل السياسية والدينية، من معاصريه، وللأسف نسيه معاصرونا، أو أُنسى ذكره.
دموع مَلَك
■ من ذكرياته، يحكى لنا «صليب سامى» بعض من مسيرة حياته منذ أن تفتح وعيه فى مرحلة دراسته الابتدائية، فيُحدثنا عن «أحمد أفندى سمير»، الذى كان من محرضى الثورة العرابية، مع الإمام محمد عبده والشيخ عبدالله النديم، والذى عاد من منفاه فى مدينة شتوتجارت بألمانيا ليتولى تدريس اللغة العربية فى المدرسة التوفيقية. وبعد إلحاح وتوصية من صديقه «حفنى ناصف»، وافق «أحمد أفندى سمير» على أن يعطى درسًا خصوصيًّا لـ«صليب سامى». ويقول «صليب»:
«.. كان حفنى بك قاضيًا بمحكمة طنطا، وكان والدى كبير كُتَّاب المديرية، وكانا جارين وصديقين حميمين. كانت ملك، كريمة المرحوم حفنى ناصف، تتلقَّى العلم بالقاهرة فى المدرسة السنية، وكانت تقيم بمنزل سمير أفندى، وكنا أحيانًا نتلقَّى الدرس عليه معًا.. وكنت فى يوم الخميس أقصد إلى ملك فى دار سمير أفندى لأصحبها إلى طنطا، حيث نجد والدينا فى انتظارنا على رصيف المحطة، وظللنا على هذه الحال ردحًا من الزمن، إلى أن عكر سمير أفندى علينا وعلى والدينا صفو هذا اللقاء، ففى أحد أيام الخميس طرقت باب سمير أفندى كعادتى، فوجدته واقفًا فى ردهة الدار ينهر ملكًا غاضبًا، وملك إلى جانبه باكية، وحالَمَا رآنى بادرنى بقوله: لقد كبرتما- وكان كلانا لا تزيد سنه على ثلاث عشرة سنة!- لا لا، اذهب اذهب، ملك لن تسافر معك بعد الآن. وحينئذٍ أدركتُ سِرَّ بكاء ملك.. ويستطرد: وفى محطة طنطا سألنى حفنى بك فى قلق عن سبب تخلف ملك، ولما رويت له حديث سمير أفندى استغرق فى الضحك، وقال لوالدى: إن سمير أفندى محافظ فى تقاليده إلى درجة الجنون، وسوف يظل محافظًا عليها إلى أن يموت».
«ولقد صدق حفنى بك فى قوله؛ فقد كان صديقه سمير من غلاة المعارضين للمرحوم قاسم بك أمين.. أما ملك فكانت تؤمن بتعاليم قاسم أمين منذ صباها رغم معارضة أستاذها وغيره لأن والدها نفسه كان مؤمنًا كل الإيمان بهذه التعاليم.. كانت باحثة البادية- (اسم اشتهرت به ملك حفنى ناصف)- من أوائل الذين جاهدوا فى سبيل تحرير المرأة المصرية.. متبعة فى ذلك آراء والدها الكريم.. فكانت مؤمنة بتعاليم المرحوم قاسم أمين فيما كتب عن تحرير المرأة والمرأة الجديدة، وكان لها من تلك الآراء والتعاليم مقدمة الجهاد فى سبيل تحرير المرأة المصرية، ومساواتها للرجل فى الحقوق والواجبات، رغم ما عانته من الجهد فى هذا السبيل، ويحق للمتتبع لمراحل هذا التحرير أن يقر عينًا بما وصلت إليه جهود المرأة المصرية فى سبيل مساواتها بالرجل، والاشتراك معه فى مختلف ميادين الحياة، فقد أسعدنى الحظ حقًّا أن كنت ممتحنًا للسيدة نعيمة الأيوبى، المحامية، وهى أولى الحاصلات على إجازة الحقوق فى مصر، وتزيد من غبطتى كثرة العاملات الآن فى مختلف المهن الاجتماعية والعلمية والقضائية، بل الصناعية».
■ مسيرة «صليب سامى» مسيرة تنير الطريق لمَن يريد أن يعرف جانبًا مهمًّا من معنى المواطنة وتطبيقاتها فى أجَلّ صورها.. فى عهد وصفوه بـ«العهد البائد»، وواقع الأمر أن أكثر ما باد منه هو بعض جوانبه المضيئة، وفى القلب منها مفهوم «المواطنة».
نقلا عن المصري اليوم