حلمي النمنم
ما يجرى سنويًا فى امتحانات الثانوية العامة يستحق أن تتوقف عنده الدولة المصرية بقضها وقضيضها، وكذلك المجتمع كله وليس فقط وزارة التعليم ولا أسر الطلاب.

هناك عملية ترويع حقيقى تمارس على الطلاب وعلى أسرهم، يمارسها بعض من يضعون أسئلة الامتحانات، كما جرى هذا العام فى مادتى الفيزياء والتاريخ، شهدت بعينىّ وسمعت بأذنىّ انهيار بعض الأمهات وألم الآباء، فضلًا عن رعب عدد غير قليل من الأبناء، بعد كل تلك المشاهد خرج معالى الوزير ليطمئن الجميع إلى إعادة توزيع درجات الإجابات ومحاسبة من وضعوا الأسئلة، والأهم منح الطلاب الدرجات النهائية فى ثلاثة أسئلة، وهذا يعنى أن الدرجات النهائية يمكن أن تمنح بتوجيهات وزارية، كل تلك الخطوات قد تُحمد للسيد الوزير، لكن هذا يثير التساؤل الكبير.. ولماذا كان الترويع من الأصل؟ ألا يؤكد هذا أن الترويع سنويًّا يقصد لذاته؟!.

يوضع سؤال معقد ويعترف الجميع بذلك ثم تكون هناك حالة من الكرم فى التصحيح ودرجات الرأفة، المعنى الواضح أن هناك تعمد ترويع الطلاب وأسرهم، والسؤال هو لماذا؟.

.. هناك بعض التقليديين أو الرجعيين فى مجال التعليم يؤمنون بضرورة ترويع الطالب، حتى لا يفقد المعلم رهبته والتعليم هيبته، هذه النظرية كانت قائمة فى وقت ما، حتى على المستوى السياسى وكل جهات التعامل مع المواطنين، وخضنا معارك ومواجهات عديدة وأزمات كبرى فى تاريخنا، حتى تغيرت تلك النظرية وأدرك كبار المسؤولين والجهات الإدارية أن دورهم خدمة المواطن لا التسلط ولا التسيد عليه، ناهيك عن ترويعه. لكن ما نلاحظه، بكل أسى، أن هناك من لا يزال يؤمن بتلك النظرية فى مجال التعليم (الحكومى)، خاصة فى المرحلة قبل الجامعية، ويمارسونها بالفعل، سمعناها قديمًا ولا تزال تتردد بين بعض المعلمين «الطالب لا يُكرَّم أبدًا».

غير أن بعض المعنيين بملف التعليم يرون أن الترويع فى الثانوية العامة مقصود فعلًا، أن يتم وضع الطالب أسير جو نفسى قائم على التهديد بالفشل، لهدف آخر وهو دفع الأسر والطلاب قسرًا نحو (سناتر) الدروس الخصوصية، ميزانية الدروس الخصوصية تتجاوز عشرات المليارات سنويًا، بعض التقديرات ذهبت إلى أنها تجاوزت العام الماضى مائتى مليار جنيه، لا يتوقف الدفع طوال العام، صيفًا وشتاء.

قبل أسبوع أثارت بعض المواقع الإخبارية وعدد من الفضائيات واقعة استئجار أحد المعلمين أكبر قاعة فى استاد رياضى رسمى، لإعطاء درس خصوصى، حضره أربعة آلاف طالب وطالبة، توقفت المواقع، بلهجة لا تخلو من حسد، حول دخل المعلم فى هذه الحصة فقط، الرقم تجاوز المليون جنيه، وزارة التربية غسلت يديها من الموضوع برمته، حيث أعلنت أن المعلم ليس من المعينين بالوزارة، وزارة الرياضة قالت إنها سوف تجرى تحقيقًا ثم خمد الموضوع تمامًا، ولم يتوقف أحد أمام دلالة الحالة المتكررة بالنسبة للعملية التعليمية وللطلاب الذين عليهم السعى خلف هؤلاء، فى أى مكان وأى توقيت.

حروب نفسية طاحنة تمارس على الطلاب وأسرهم، القائمون عليها هم أنفسهم من داخل العملية التعليمية وأصابعهم قد لا تكون بعيدة عن وضع أسئلة الامتحانات، لذا يتكرر سنويًا مشهد الترويع والبكاء ثم يتدخل الوزير للتهدئة وامتصاص الغضب وبعض الكرم فى درجات الرأفة أو ما يشبه ذلك. باختصار-طبقًا لتلك الرؤية- الأسرة المصرية تُكره على دفع كل مدخراتها لمافيا الدروس الخصوصية.

لو صح ذلك فهذا يعنى أننا بإزاء عملية فساد معلنة ومشهرة، دون انتباه كافٍ ومؤثر بها من الأطراف المعنية بدراسة الفساد واكتشافه.

والفساد يقود ويفرز مزيدًا من الفساد، سخافات ورقة الأسئلة خلقت «مقاومة فاسدة» لها وهى تسريب الأسئلة، فور بدء الامتحان وربما قبلها بساعات أو دقائق، هل نتذكر واقعة مسؤول المطبعة السرية بوزارة التربية والسيدة زوجته، حيث كانا لسنوات يقومان بتسريب الأسئلة، بالتأكيد هناك جهود تبذل لضبط هؤلاء ومحاسبتهم، لكن واضح أن العملية لا تتوقف، هناك بعض حالات الغش الجماعى، منذ سنوات الثمانينيات، الأهالى يقومون بذلك فى مواجهة ما يرونه تعنتًا مع أبنائهم.

هناك محاولات لمواجهة بعض هذه الظواهر السلبية، لكن لم يُبذل جهد كافٍ لعلاج ملف الثانوية العامة بالكامل.

وطبعا تعيش الأسرة تحت الضغط الاجتماعى حول وهم اسمه كليات القمة، ذات المستقبل المضمون وكليات القاع، التى بلا مستقبل، فضلًا عن النظام البالى لدخول الجامعة والذى يعلق مصير الطالب وأحلامه هو وأسرته على درجات ذلك الامتحان.

كان مفهومًا من قبل أن يحدث التهافت على الثانوية العامة وأزماتها، حين لم تكن هناك أماكن بالجامعة تكفى كل الطلاب، الآن صار لدينا فائض من الجامعات، تستوعب كل الطلاب، بل إن هناك بعض الجامعات والكليات تشكو قلة الإقبال عليها وتظل طوال العام تعلن عن أماكن خالية وتيسيرات لقبول الملتحقين.

فى كل الأحوال هناك عملية ترويع حقيقى، حتى إن إحدى السيدات تطوعت بنصح الطلاب وتذكيرهم بأن الثانوية العامة فى النهاية أقرب إلى «قرطاس».

سوف تنتهى الامتحانات لكن تبقى تجربة وخبرة الترويع قائمة وباقية فى الذاكرة، محفورة بالوجدان، يعلم الله كيف تكون تشكلاتها فى مصير وحياة صاحبها، فيهم من يتجاوزها وينجو، لكن بين هؤلاء من لا يفارقه الاكتئاب والإحباط طوال حياته وفيهم من يبقى مستعدًا ومتقبلًا للترويع وهناك من يملؤه الحقد ويظل راغبًا فى الانتقام أو ممارسة الترويع وإذلال الآخرين.

من السهل أن تجد داخل كل منا موقفًا معينًا أو ألمًا ما، عن الثانوية العامة، د.أحمد زويل، بعد حصوله على جائزة نوبل، تحدث مرة عما عاناه فى الثانوية العامة.

قالت لى أستاذة فاضلة ومتميزة، هى الآن عميدة إحدى الكليات التى تصنف ضمن «كليات القمة»: «نحن نستقبل طلاب السنة الأولى وبهم الكثير من الأوجاع النفسية، أوجاع وأمراض الثانوية العامة، ويصبح همنا الأكبر فى عامهم الجامعى الأول، هو محاولة علاج تلك الأوجاع».

وليتنا لا ننسى نتيجة طلاب السنة الأولى فى طب سوهاج وطب جنوب الوادى، فى هذا العام كانت النتيجة مأساوية وتقول إن من تفوقوا فى الثانوية العامة غير قادرين على ممارسة الدراسة الجامعية بالكلية التى تحملوا العبء وتقبلوا الترويع للالتحاق بها.

فى حياة الروائى الروسى العظيم دوستوفيسكى أنه حين كان معتقلًا وصل إلى إدارة السجن حكم عليه بالإعدام وتحدد موعد التنفيذ وتهيأت إدارة السجن للتنفيذ، ثم أُخذ هو إلى ساحة الإعدام، فى اللحظة الأخيرة جاء من يصرخ توقفوا، لقد أصدر القيصر عفوًا، فيما بعد أثبت بعض المحققين فى هذه الواقعة أنه لم يكن هناك من الأصل حكم بالإعدام ولكنها لعبة تمت ممارستها لترويع بعض السجناء فقط، ثم إظهار القيصر فى موقف الرحمة، سواء صح ذلك أو لم يصح فإن تجربة الإعدام لم تفارق ذاكرة ومشاعر الروائى العظيم وعنها قدم واحدة من رواياته المهمة والمؤلمة.

ملف الثانوية العامة أكبر من أن يُترك لوزارة التعليم ورجال التربية وحدهم، هو ملف وطنى وقومى وإنسانى بامتياز، ينبغى أن تتناوله كل الاطراف، مثلًا حول أجواء الامتحانات، يجب أن تتعاون الوزارة مع المجلس القومى لحقوق الإنسان، ذلك أن ترويع الطلاب، أيًا كانت الدوافع والأسباب، عملية مدانة ومن المعيب أن تتكرر سنويًا.

فى وقت ما كان العبث فى امتحان الثانوية العامة يتم لحسابات سياسية، حدث ذلك أيام حرب الاستنزاف، لكن الآن يتم لحسابات اجتماعية.. فئوية ومادية.
نقلا عن المصري اليوم