أحمد الخميسي
هذه واحدة من أوائل القصص التي نشرتها في أبريل عام ١٩٦٥ في مجلة القصة، وكنت في السابعة عشرة من عمري، وكان محمود تيمور رئيس التحرير وثروت أباظة سكرتير التحرير، وقد انقضى عليها الآن نحو ستين عاما! أعيد نشرها لما تحركه في النفس من ذكريات.
الشوق
هل تعرفون الحزن؟ الحزن المرهق الذي ينوء به القلب؟ هل تعلمون ما هو الألم؟ الألم الكظيم الذي يترك في النفس بقعا كالمرض؟ هل كابدتم الشوق؟ شوق صبي صغير لم يتعد التاسعة لأبيه؟ لوجه أبيه؟ لكفه الثقيلة؟ للحديث معه؟ هل جربتم الشوق ؟ هذا الشوق؟
كان يسير في المساء وقد تناثرت سحابات رمادية على صفحة السماء. الوقت حوالي العاشرة وقد تكالب عليه الضيق وتضافر الألم فأخرجاه من البيت، أما الدمعة فالقشة التي قصمت ظهر البعير، تلك الدمعة التي ترقرقت في عين أمه المنكبة على الماكينة ذات الصوت المزعج ترثي ذكريات بهيجة جميلة الحواشي.
أخرجه الصمت، كل تلك الكآبة الموحشة التي كادت تخنقه بالحقيقة فخرج يستنشق الهواء مبتعدا عن جو البيت، هواء الشتاء البارد في الشارع الممتد الطويل يطبق عليه ذاك المساء.
منذ زمن بعيد، من خمسة شهور هي عمر هذا الزمن البعيد، اختفى أبوه فجأة، عنه وعن أمه وأخيه وتلك الأخت الصغيرة ذات الجدائل الفاحمة السواد، فقد تزوج من شابة صغيرة حلوة رغم كبر سنة. وعرف بعدها عنوان مسكنه الجديد من قريب له فكتبه خفيفا بقلم رصاص على ورقة صغيرة دسها في كتاب مدرسي، فقد كان الطريق إن أراد إلي أبيه. هناك يراه ويريه أن الشوق كامن في الأعماق. أتذكر العناق؟ ليتك تدرك ماذا يعني أن يعانق الأبن أباه. القبلة على الوجنة قبل النوم وفرح الحياة، واخضرار الحلم. أبي. يا أبي. أين أنت؟ أبي إن الحياة من بعدك شيء يجثم على الصدر. شيء يئن من الألم، باهتة وفيها اصفرار، والليلة بعد الليلة تنوح كثاكلة الليالي، معذبة طعينة، والحزن، الحزن يا أبي لو تدري غائر العمق في عيني أمي..
من يومها وكلما أظلمت نفسه الشفافة وناءت بثقل المأساة، وكلما ضاق صدره بانطواء أخيه الأصغر، انطواؤه البائس الذليل الذي يبدو في جلسته وفي عباراته المقتضبة المنخفضة، من ذلك اليوم الذي ماعاد يسمع فيه ضحكات أخته الطفلة الجذلى الطروب ذات الجدائل الفاحمة السواد، ولا قهقهاتها الفياضة بالحياة، وحين كان يسمع السؤال لا يموت على شفتيها: ماما. أين أبي؟ أين هو؟. فأي أحزان كانت تنسكب في نفسه. من يومها وكلما نهش الشوق بالشوق قلبه، أخرج العنوان، الكلمات المتجاورة، وتمعن فيها ثم أطلق تنهيدة خفيضة حرى لا تصدر عن صبي في التاسعة، وفي التاسعة فقط أنضجته الأمور قبل الأوان.
الشارع بارد صامت كجسد الميت، ينفلت فيه بين كل آونة وأخرى شخص مسرع، يغوص رأسه بين كتفيه، ولخطواته صدى، والهواء يلذع ساقي الصبي ونصف فخذيه العاريتين، بينما يداه مدسوستان في جيبي سرواله البني القصير.
بجوار دار السينما الفخمة قام منزل أبيه مستطيلا، هناك في الدور الرابع يسكن أبي. نعم. رفع عينيه العسليتين إلي أعلى وأسنانه تصطك ناظرا إلي الشرفة التي ينبعث منها الضوء، وارتعشت شفتاه، أي احساس غريب أكد له أن أباه في تلك الغرفة في هذا الوقت؟ هل هذه هي حجرة مكتبه؟ أم الجلوس؟ وهل ياترى مازال يجلس مضطجعا إلي الخلف ويداه متشابكتين على ركبتيه؟ طبعا. هو يضحك الآن؟ وهو تناول عشاءه؟ أما زال كما هو لم يتبدل؟
الشوق الحار والنسمة الباردة تلسع خده. يداه مدسوستان في جيبي سرواله. نحيف قصير مليء بالشوق والرغبة. ثقلت منه القدمان أمام مدخل العمارة بلا إرادة كأن شيئا قويا يجذبها. تساءل: هل يصعد كي يراه؟ هو أبي ولا شيء في العالم يبرر أن يحرم الانسان نفسه من أبيه. هل يصعد له؟. نعم..لا.. أحس أنه يغرق مختنقا في " لا" ، ويطفو مستنشقا الحياة في " نعم". نعم فلتصعد. أصعد؟. لا. بل نعم. الأمر بسيط ، أسرع على درجات السلم واطرق الباب والق بنفسك وكل حنينك واخلص الشوق في حضن أبيك منفجرا بالبكاء. أيدرك يا ترى كيف من بعده اكتأب المساء؟ لقد هجرهم ولم يفكر حتى في السؤال. حتى السؤال، فكيف يذهب له بنفسه وماذا يقول؟ أتطحن كبرياؤه حنينه؟ أم يطحن الحنين تلك الكبرياء؟
الشارع بارد صامت برودة كلمة " لا" ، مظلم كأعماقها، والوقت يزحف، فماذا بعد؟ أية قرارات تلغي أخرى، وأية رغبات متناقضات تحدث النفس؟. وأمه. كيف نسيها؟ أمه التي تشبه في جسدها هذه السيدة المارة هناك متدثرة بمعطفها. أمه الجالسة الآن على الماكينة مستمرة في حياكة الثياب، كم من آلام تجرعتها، غرست في قلبها مرارة الحرمان. علقم. علقم الشوق إن لم يطفئه اللقاء. علقم. لقد هجرهم حتى من دون سؤال. ما ضره لو سأل؟ لو فعل لأوجد المبرر كي أراه. هل يصعد أم لا؟
مرقت عربة مسرعة كالسهم ، وفي تثاقل جرجر قدميه متجها لنهاية الشارع مبتعدا عن المنزل. أضواء المصابيح البرتقالية الشاحبة تلقي بظلال أعمدتها على الرصيف. توقف ثم لوى عنقه والتوى معه قلبه ناظرا للشرفة التي مازال ينبعث منها الضوء. معذب هذا الرجاء. هل يمكن أن يخرج أبوه للشرفة فيراه؟ دار نصف دورة بقدميه فاستدار جسمه النحيل إلي المنزل. اغرورقت عيناه بالدمع وهو ينظر هناك. معذب هذا الرجاء. هل يراه؟ ياليته يخرج. جذب نفسا عميقا ثم صافحت عيناه الأرض. ونظر إليك باب العمارة الحديدي البارد كالكبرياء. لعله عائد من مشوار مع زوجته. زوجته ؟ وما شكلها؟ وتجمعت في نفسه أحاديث متفرقة وأقاويل عنها من أقاربه، وتخيلات من رأسه، فحث الخطى وقد أحنى ظهره عائدا لمنزل أمه تتسابق دموعه فتدفيء مجراها البارد على وجنتيه. تابع مسيره بالشارع. طك. طك. في ساعة متأخرة بالليل. طك. طك. القلب ينبض مثقل بالحزن. طك. طك. ازداد الليل كثافة وارتعش نجم صغير في ركن السماء. قطرات مطر خفيفة تبلل الأرض. ظلال المصابيح على الرصيف، أضواؤها البرتقالية الشاحبة مرتجفة. عاد يلتفت برأسه الي تلك النقطة التي مازال ينبعث منها الضوء وتساءل.. ترى هل تناول عشاءه؟ وكيف؟ ألم يتغير؟ وهل يا ترى مازال يذكره؟