سحر الجعارة

اسمحوا لى أن أتجاوز قواعد النحو، فكلمة «كان» تؤلمنى، تجعل كل العبارات صادمة، وكل التعبيرات نازفة بألم الفقد.

 

«هو» لا يزال بيننا بضحكته الودودة، يهرب من كلمات الإعجاب، ومظاهر النجومية، لا يزال بنفس بساطته: «لسان حال البسطاء»، يجمع مداد قلمه من يوميات المواطن، ويرفع المظالم للرأى العام مهما كلفه الأمر.

 

كل التحليلات التى تأملت أسلوبه فى الكتابة، لم تفك أسرار التفاف الجماهير حوله، وحده عرف جيداً أن «الصدق» شفرة خاصة تربط الكاتب بالناس.

 

«الناس» الذين اقتربوا منه يعرفون جيداً أن أمراض «الشهرة» لم تُفسده، والأضواء المكثّفة لم تصبه بعمى الألوان، الذى يضلل رؤية الكثيرين!

 

«مجدى مهنا» عاش بقلب «صوفى» يترفّع عن «الصغائر»، لم تجرفه دوامة «الطموح»، الذى يبدأ مهنياً وينتهى -فى الغالب- مادياً.

 

عاش «زاهداً» فى مظاهر الثراء، ربما خشى أن تفصله عن طيبة الشعب وأصالته.

 

فى أزمة خروجه الدرامى من رئاسة تحرير «جريدة الوفد»، جاءنى صوته المتفائل -عبر الهاتف- (قال لى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل: اكتب، وأنا ما زلت أكتب)، إنها حسابات مختلفة للمكسب والخسارة.

 

لقد قرر «مجدى» أن يختار معاركه ولا تفرض عليه، ودفع ثمن مواقفه «راضياً»، تُرى أين الرضا ممن خذلوه يوماً ما؟!

 

اختار أدواته بعناية: (العقلانية والصبر فى المعارك النقابية، الأسلوب السهل الممتنع فى الكتابة، الطلة الوقور على الشاشة، وصلابة المحارب فى مواجهة المرض).. لكن المرض اللعين هزمه فى آخر جولة، بل هزمنا جميعاً.

 

اختطف المرض قطعة من قلب «مصر»، نهشها دون رحمة، فلم تشفع لنا الدموع ولا لوعة الفراق، وظل وحده يقاوم لآخر نبض.. ولآخر حرف.. إنها إرادة الحياة، تلك التى دفعته لأن يُطلق آخر صيحة تحذير: (أكباد المصريين فى خطر)!!

 

من أين جاءته تلك الشجاعة، ليروى تجربته الخاصة على الناس.. وهو الذى حجب ألمه الشخصى؟ هل كان يدق جرس الإنذار لآخر مرة؟!

 

لا أحد يعلم -يا صديقى- مضاعفات العلاج الكيميائى إلا من خبره، لا أحد يخاطر بزراعة كبد فى جسد يقاتل انتشار الخلايا السرطانية، إلا من عاش التجربة بكل ما فيها من قلق وألم، وكأنه قدرك أن تعيش دائماً على حافة الخطر.

 

«المرض» لم يكن مقالاً عابراً فى حياتك، بل تجربة حياة تكشف قيمة إنسانية رفيعة.. صحيح أنك صادرت عبارات المواساة، وهربت من نظرات الشفقة، لعلك تدرك الآن أننا أولى بالشفقة!!

 

قلمك المغروس فى جرح الوطن علمنا «الحب»، لكنه «حب مختلف»، أحببنا فيك ومعك شرف الخصومة، وأدب النقد، والتسامح.

 

أحببنا قلماً لا يعرف المهادنة ولا المساومة، لا يقبل الانحناء لسلطة مهما كان جبروتها، ولا يقايض على المبادئ مهما كانت الإغراءات.

 

أنت الآن مُتحرّر من أعباء الكتابة، أنت يا من رفضت التصفيق لنجاحاتك.

 

لقد كتبت من قبل أنك أحد الذين (يحترقون عشقاً)، ومصر تبادلك عشقاً بعشق!

 

لقد ضنت علينا الدنيا بالوقت، فكأنما كنت برقاً ما إن لمع فى السماء حتى انطفأ، وتركتنا لرعد لا يعد بمطر.

 

تذكرتك يا غالى وأنا على وشك الاستقالة من دور البطولة، تذكرت صلابتك وإصرارك وعشقك للحياة رغم الألم حين فكرت فى التوقف عن «المعافرة» وإعلان الهزيمة والاستسلام.

 

نحتاجك -يا مجدى- لنصدق أن «الكلمة» لا تزال لها قدرة التأثير والتغيير. نحتاجك لتحرّض مواهبنا، ونكتشف حقيقة أنفسنا فى مرايا عيونك. نحتاج إنسانيتك تحتوينا.. وتقهر الحزن الذى يلفنا.

 

 

لقد تعلمت منك ألا يحنى قلمى هامته إطلاقاً.. وما زلت أكتب.

نقلا عن الوطن