بقلم د/ دينا أنور
كثيراً ما يعيِّرنا الشاعرون بالضآلةِ من بني يعرُب بقول"عمرو بن العاص"قائد الاحتلال العربي لمصر عن أهل مصر أن "نسائها لعِب و رجالها مع من غلب يجمعهم الطبل و تفرِّقهم العصا"

وهنا استوقفني الصراع الأزلي بين أولي الرذيلة و أولي الشرف على مدار التاريخ ،فالطب النفسي أثبت أن كل سوابق العهر والانحلال و قلة الأصل في العقل الباطن تورِّث الحقد و الضغينة و الكراهية ضد ذوي الشرف والأنساب والعفَّة،و تدفع صاحب العقدةِ للمبادرة بالمعايرة بالإثم كحيلةٍ دفاعية، خوفاً من أن يقذفه أحدهم بما يكره سماعه عن نفسه أو أهله!

و من هنا سألت نفسي : ما الذي يدفع قائداً عسكرياً احتلّ بلداً عظيمة كمصر أن يصف أهلها بتلك الصفات التي توحي بالرذيلة؟فعرفت الجواب من كتب التاريخ ذاتها التي تمجِّد ابن "العاص" المحتل و تعتبره فاتحاً إسلامياً و قائداً و بطلاً..!!

"عمرو بن العاص" كانت والدته "النابغة ليلى العنزية" من صاحبات الرايات الحمر بمكة ، وهن البغايا اللواتي يبعن المتعة بالمال، كانوا يسكنون على أطراف المدن في خيمٍ عليها رايات حُمر ليقصدهم زبائن المتعة!

قدمت النابغة إلى مكَّة و معها بناتٌ لها، عملت مع البغايا و كانت أرخصهن أجرة، وكان العرب حينها يمارسون نوعاً من الجنس الجماعي يسمى "الرهط"،و هو أن تواقع الأنثى مجموعةً من الرجال يتناوبون عليها بالاتفاق معها ، فإذا حملت و أنجبت جمعت هؤلاء الرجال و اختارت منهم أباً لولدها لا يحق له أن يرفضه!

و هو ما حدث حين أنجبت النابغة "عمرو"،إذ كانت تمارس الرهط مع أربعة من رجال مكَّة هم "العاص" و "ابو لهب" و "أمية بن خلف" و "ابو سفيان"، فتصارع رجلان على أبوته هما "العاص" و "أبو سفيان"، و يُقال أن"عمرو" كان قريب الشبه ل"أبو سفيان" أكثر، إلا أن "النابغة" نسبته ل"العاص" حين احتكموا إليها، و حين سُألت بعد ذلك لماذا اختارت "العاص"رغم أن "ابو سفيان" أحسن نسباً و مالاً، قالت أن"العاص" كان سخيَّاً معها و ينفق على بناتها،و أن "ابو سفيان" كان شهيراً بحرصه و بخله، فخافت أن لاينفق عليهما و تضيعَ بولدها، كما ذُكِر في السيرةِ الحلبية أن "عمرو" كان يُعيَّر بذلك حتى من الصحابة، حتى أنه تمت معايرته من "علي" و" عثمان" و "الحسن"و "عمّار بن ياسر" و غيرهم من صحابة النبي !

و هنا يجب أن نقف على حقيقة عقدة الأم التي كان يعاني منها "عمرو بن العاص"، حتى بعد أن أصبح قائداً و محارباً، إذ أن اسقاطه على نساء مصر بأنهن بالبلدي " ستات مُلعَب"ماهي إلا نتيجة لألمه الداخلي من صورة أمه في ذهنه و أذهان من يعرفونه و من يعايرونه!

"عمرو بن العاص"كمحتل معتدي لم يهتم سوى بجمع الضرائب والجزية و الخراج و حرق مكتبة الاسكندرية بما فيها من علوم و كنوز معرفية و ثقافية، و لو كان بذل قليلاً من الجهد في دراسة تاريخ هذا الشعب المتحضر حينها، لعلِم ابن "النابغة" أنَّ نساء مصر لم يعرفن مهنة البغاء و لا بيوت المتعة كجزء من نسيج المجتمع في تاريخهم الأصلي القديم، كما كان في مجتمعه في شبه الجزيرة ، و لعلِم ابن "النابغة" أن غالبية نساء مصر كن يعملن إلى جانب رجالهن في الحقول و الغيطان و ليومنا هذا ، و أن مهنة أمه ظلّت منبوذة من المصريين حتى بعد استقدامها مع المحتلين و لم يتقبلها المجتمع المصري كمجتمع شبه الجزيرة، و أنَّ المصريين حتى يومنا هذا يخافون عار الانجاب من البغاء!

نسائنا في أروقة القصور فوق العروش جلسن كملكات جنباً إلى جنب مع الملوك،لم يكن سبايا محظيات أو جواري مخطوفات أو سلطانات متبرقعات خلف حرملك كنساء العرب!

نساؤنا كن"لعِب" ليس لأنهن بغايا ك"النابغة" أمه،بل لأنهن كن على مدار التاريخ نظيفات ناعمات، عرفن التزين و التعطر و التجمل و العزف و الرقص منذ فجر التاريخ كجزء من حضارتهم و ثقافتهم لا لبيع المتعة كالجواري و صاحبات الرايات الحمر في شبه الجزيرة، عرفن ازالة الشعر الزائد و برد الأظافر و تحكيل الأهداب و تلوين الوجنتين و الشفتين و رسم الحواجب منذ عهد الفراعنة، و لكن "عمرو" انحدر من بيئة لا تتزين فيها إلا البغايا، فأسقط صفات بيئته علينا، و مازلنا نعاني حتى اليوم من أحفاده و أتباعه الذين يرون كل امرأة متزينة بغي كالنابغة أمه..!

أما بخصوص رجال مصر الذين وصمهم بأنهم "مع من غَلَب"، فهذا لا يعيب رجال مصر المسالمين أحفاد الحضارة، الذين كانوا يشربون ماءً عذباً من نهرٍ جاري دون عناء، و يأكلون من الغيطان ثمراً شهياً دون استيراد، و يلبسون من كتانهم أجمل الثياب دون انتظار أقمشة القوافل، و يصنعون من ذهبهم و فضتهم أرقى الحلي، و يتزوجون حبيباتهم و يعطون زوجاتهم حقوقاً كاملة، لم يكونوا في حاجة إلى الحروب و السيوف ليتناحروا على الآبار و الغنم و الماعز و الابل و ينهبوا القوافل و يغيروا على القبائل و يسبوا النساء و يقتلوا الرجال ليغتصبوا زوجاتهم كشبه الجزيرة،من ينحدر من أصولٍ نبيلة لأجدادٍ فراعنة و مزارعين و كاتبين و قضاة و بناة أهرام و معابد و مسلاّت، و علماء طب و فلك و كيمياء و فيزياء و تحنيط، من المنطقي جداً ألا يكون عدائياً و لا هجومياً و لا معتدياً، بينما من ينحدر من أصولٍ مشكوكٍ فيها تعود إلى قطّاع طرق و ناهبي قوافل و حاملي سيوف و قاطعي رقاب لابد أن يكون هجومياً همجياً معتدياً حاقداً ، و لذلك يلجأ النبلاء إلى البلطجية و المجرمين لآداء الأعمال القذرة عنهم، فالنبيل لا يجيد العنف و لا يؤثر الحرب، النبيل يسعى دائماً للسلام و العيش في هدوء،!

أما في شأن "تجمعهم الطبلة" ، فالحضارة المصرية و كل حضارات العالم القديم عرفت الطبل و الزمر و الموسيقى و الغناء و الرقص و العزف كأشكالٍ من فروع الثقافة، بل و العبادة، و لم نسمع يوماً بمن يبغض الموسيقى و الغناء و الرقص و يحرٍّم الفنون و يزدري أهل الفن سوى بعد أن علت أصوات بني يعرب و نشروا قبحهم في بلادنا السعيدة بسيوفهم !

و أما في شأن " تفرِّقهم العصا" فهو دليل على الترفُّع و الابتعاد عن الإهانة من ذوي الخسّة، إذ أن الشهامة تقتضي أن يواجه ذو العصا ذي عصا مثله، أمّا أن يواجه ذو عصا جبان يحتمي خلف عصاه صاحب الأرض الأعزل الذي يصون كرامته، فالعيب هنا يقع على الخسيس ذو العصا، لا على العزيز الأعزل الذي يصون كرامته و كرامة ذويه من بطش صاحب العصا الهمجي ، فالمصري لم يكن مثلهم متصالحاً مع فكرة أن يستيقظ يوماً ليجد نفسه تحت صهيل الخيول و صرير السيوف منهوباً ماله مخطوفةٌ نساؤه مذلولةٌ قبيلته، المصري ورث عن أجداده حب السلام و الإعمار و بناء الأسرة و إجلال النساء، و لولا جرائم الاحتلال تلو الاحتلال لأصبحت مصر سيدة العالم الحديث كما كانت سيدة العالم القديم!

"عمرو بن العاص" كان مجرد محتل معتدي، شأنه شأن الهكسوس و الفرس و الرومان، زحفه نحو مصر كان توسعاً عسكرياً لا شأن له بنشر دين و لا انقاذ شعب مضطهد، و إلا لماذا لم يرحل ويتركها لشعبها ؟ لماذا استمر في جمع خراج مصر و ضرائبها و جزية أقباطها؟ لماذا حرق مكتبة الاسكندرية و استولى على أرض امرأة قبطية لتوسعة مسجده؟ لماذا أخمدوا ثورات المصريين عليهم و قمعوا البشموريين و اضطهدوا الأقباط و جعلوهم أقل قدراً من المسلمين، المصريين كانوا و مازالوا أصحاب أعظم و أقدم حضارة على وجه الأرض،لم يكونوا في حاجة إلى فتحٍ من ابن العاص و النابغة ليصنعوا حضارة،ربما لو جاء ابن "العاص" مصر في عهد بناة الأهرامات لانتهى به الحال سماداً عضوياً مدفوناً تحت طميها ، يجرفه النيل العجب،و تدوسه النساء اللعب، ربما لو قدمت أمه النابغة إلى مصر بدلاً من شبه الجزيرة لأنجبته كزوجةٍ كريمة من مزارعٍ مصري شَريف لا يعرف اختلاط الأنساب و لا صاحبات الرايات، الحمر و لكنها لم تكن ذات حظٍ كافٍ لتكون من نساء مصر اللواتي جلسن بجوار الرجال على العروش .. بينما كانت نساء العالم تباع وتشترى.

#الدكتورة_بنت_الباشمهندس