القمص يوحنا نصيف
بمناسبة عيد ميلاده الواحِد بعد المائة:
    أتمّ هذا الأسبوع الأبّ الجليل المطران جورج خضر، مطران جبل لبنان السابق للروم الأرثوذكس عامه الواحد بعد المائة (مواليد 6 يوليو/تمّوز 1923م). وفي الواقع أنّ هذا الرجل هو علامة فارقة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسيّة بلبنان، بل وفي الشرق الأوسط كلّه.

    بهذه المناسبة يسعدني أن أنشر له ثلاث مقالات على التوالي، من التي كان يكتبها كافتتاحيّة للنشرة الأسبوعيّة -"رعيّتي"- التي تُصدِرها إيبارشيّته. فالحقيقة أنّ هذه المقالات التي تُعَدّ بالمئات هي ليست فقط قِطَعًا أدبيّة روحيّة رفيعة المستوى، ولكنّها دائمًا ما تفيض بفهم عميق وغني لروح الإنجيل، ولا تخلو من التوجيهات الرعائيّة العمليّة الثمينة.

القمص يوحنا نصيف
+ + +
               مِنَ العالم إلى الحُبّ الإلهي
    مُقاومة المسيح تَقْوَى وتَنتَشِر.

    إنّ رَبْطَ أقطار العالم أحدها بالآخَر بالسَفَر ووسائل الإعلام والإنتاج الأدبي يساعِد على تعميم الأذى. هذه الأدوات نافعة لاستفحال الشَّر كما تنفع لإذاعة الخَير ولا شكوى لنا من وجودها. إنما هذا يُفَسِّر تَفَشِّي الخطيئة. وهنا لابد من مراقبة الإنسان لنفسه ولأولاده. إنّهم لا يستطيعون الخروج من العالم وتشكيل تجمُّعات طاهرة لأنّ وسائل العَيش هي في هذه الدُنيا، وبالاختلاط مع الأشرار والخَطَأَة. أنتَ تَبني دُنياك مع البشرية الموجودة وهي تحاول بَثّ فسادها، وأنت تَسعى بالقُدوة الحَسَنة والكلام الطيِّب أن تنقلها إلى مَعرفة الرب. هذا صراع أبدي بين النور والظُّلمة. ويتمّ الصِّراع في مكان عملك وفي بيتك وفي التكتّلات الاجتماعية التي أنت فيها بحكم مسئولياتك.

    ولكن هذا لا يعني أنّك مضطرٌّ أن تعاشر أهل السوء في سهراتهم وكل لقاءٍ لهم، ولا أن تتبنّى نمطَهم الاجتماعي. لك أن تختار أصدقاءك وأن تناقش مع أولادك معشرهم ومطارح نزهاتهم. وترى على شاشة التليفزيون البرنامج الذي تريد ولا تُصبِح ضحيّة الشاشة. ذلك أنّ للعين طهارتها. ولك أن تُلزِم زوجتك وبناتك بالحِشمة ولاسيّما إذا كُنتَ تُنفِق عليهنّ.

    وأنت مَدعُو في الطعام والشراب إلى التواضُع واجتناب البذخ، وإلى ذلك أيضًا في كسائك وأثاث بيتك. فالمجد العالمي يأتي أيضًا من هذه، فإذا اشتهيتَ المجد وانتفختَ تَفرَغ من الوجود الحقّ الذي يقوم عليه الصامدون. وكلما مارست هذا اللون من الشهوات تتحكّم هي في فِكرك وتصير مُبتغاك وتسقط في جحيم الغيرة والتباهي، فتستكبر لأنّك تملك وسائل العَيش ووسائل النفوذ أكثر من سواك وتُظْلِمُ نفسك بعد أن استنارت بالمسيح. وإذا كان الرجل يتعظَّم بماله وقوّته، فمَيلُ المرأةِ أن تتبختر بسببٍ من تبرّجها وأثوابها وسيارتها وما إلى ذلك من أباطيل. ويقود هذا إلى الاستعلاء وإلى رصف العائلة مع المُترَفين فإلى الترفُّع عن الفقراء الذين هم بالدرجة الأولى أحباء المسيح.

    ولا يخدعنّ أحدٌ نفسَه إذا ظنّ أنّه يقدر أن يَعرِض كلّ بهائه وأن يكون شغوفًا بالتواضع بآنٍ. هذا سلوك ينافي المُشاركة. فطلب الأبّهة يزيدنا تعلُّقًا بها وينميها، ليس فقط بلا فائدة ولكنّه يؤذي الضعفاء ويزرع فيهم التشهِّي لهذه العيشة المنخورة (الهشّة).

    لا نعزّيَنَّ أنفسنا بالقول أنّ معظمنا ليس كذلك. فقد يبدو الإنسان عفيفًا من عجزٍ ولكنّ قلبه مُفعَم بالمطربات. أن تكون حُرًّا من غِناك بالعطاء الكبير وحُرًّا من فقرك بالغنى الإلهي الذي فيك ذلك هو ما يجمع المؤمنين.

    أمام هذا الانحلال العميم -ولم أصِفْ كلَّ مظاهره- لا يسعني أن آتي بوصفات. فأنت لا تتحرر من الانتفاخ بالتقليل من وسائل الانتفاخ. القصة ليست قصّة كمّية. أنت تنعتق داخليًا في نفسك إذا تطهَّرت. "بالنعمة أنتم مُخَلَّصون". كلُّ شيءٍ يجب أن يتحوَّل فيك. لابد لك من استحسان وجه الله لأنّه هو وحده الحَسَن، وأنت تتيه عنه بوجوه الشياطين المُخَبَّأة تحت الشهوات المتنوّعة. إنّ انقضاضها لعظيم ومواجهتها تحتاج إلى قوة أعظم منها. يوم تصير فيه مُقتنعًا أنّ الفرح الإلهي أعظم من كلّ لذّة فيك، وأنّ السيّد يمنحنا تعزيات فينا، إذ ذاك تنتقل من مُتَع دنياك إلى النشوة الروحية لأنّها باقية. تلك كانت خبرة الأطهار.
المطران جورج خضر
5 شباط (فبراير) 1995م


* الصور: أثناء زيارته للإسكندريّة (يناير 1995م) - في كنيسة مار جرجس سبورتنج - ومع المتنيّح الدكتور وهيب قزمان - ومع البطريرك بارثينيوس بطريرك الإسكندريّة الأسبق للروم الأُرثوذكس في مقرّة بالمنشيّة.