د. أمير فهمى زخارى المنيا
قرأت في دفترى عبارة افزعتنى, وسجلتها لأسال فيها حتى يطمئن قلبي.. عبارة في الاصحاح الثانى عشر من أنجيل لوقا قال فيها السيد المسيح: "جئت لألقي نارًا على الأرض.. أتظنون أنى جئت لأعطى سلامًا على الأرض، كلا أقول لكم بل انقسامًا..

 فكيف والمسيح ابن مريم كلمة من الله، جاء ليلقى نارًا على الأرض...

فكيف يكون الله تعالى هو الكريم، وأنه كتب على نفسه الرحمة، ويقول في قرآنه أن المسيح كلمة منه.. والمسيح يقول في أنجيل لوقا أنه جاء ليلقي نارًا على الأرض؟... وغمرتنى الدهشة وقلت لا بُدّ لذلك من تفسير...

فمن يفسر لى حتى يطمئن قلبى؟.. وصرت أسأل من أعرف من أخواتنا المسيحيين المثقفين، فلم أجد عندهم ما يريح نفسي...

أما فيما يخص بالمسيحيين فمن أسال غير كبيرهم الذي أحمل له التقدير الكبير لعلمه الواسع وإيمانه العميق.. البابا شنوده.. فهل المسيحي العادى يفطن لأول وهلة إلى المعنى الحقيقي لقول السيد المسيح...

الإجابة:
رد الخطاب من قداسة البابا شنوده الثالث:

عميد الأدب في أيامنا: الأستاذ الكبير توفيق الحكيم.
تحية طيبة، ودعاء لكم بالصحة، من قلب يكن لكم كل الحب. فأنا قارئ لكم، معجب بكتاباتكم، احتفظ بكل كتبكم في البطريركية وفي الدير...
وقد قرأت مقالكم الذي نشر في الأهرام يوم الاثنين 2/12/85، الذي قدمتم فيه أسئلة حول بعض الآيات التي وردت في الإنجيل (إنجيل لوقا 12). وعرضتموها في رقة زائدة وفي أسلوب كريم، يليقان بالأستاذ توفيق الحكيم.
وإذا أشكر ثقتكم، أرسل لكم إجابة حاولت اختصارها على قدر ما أستطيع. وأكون شكرًا إن أمكن نشرها كاملة كما هي. لأن تساؤلكم في مقالكم، أثار تساؤلات عند كثيرين، وهم ينتظرون هذا الرد. وختامًا لكم كامل محبتي.

أمضاء: البابا شنوده الثالث

مقدمة:
حينما نتحدث عن آية من الكتاب. لا نستطيع أن نفصلها عن روح الكتاب كله، لأننا قد لا نفهمها مستقلة عنه.
فلنضع أمامنا روح الإنجيل، ورسالة المسيح التي ثبتت في أذهان الناس. ثم نفهم تفسير الآية في ظل المفهوم العام الراسخ في قلوبنا.

رسالة السيد المسيح هي رسالة حب وسلام: سلام مع الله، وسلام مع الناس: أحباء وأعداء. وسلام داخل نفوسنا بين الجسد والعقل والروح.
في ميلاد المسيح غنت الملائكة قائلة "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة" (لو2: 14).

وقد دعي السيد المسيح "رئيس السلام" (أش9: 6). وقد قال لنا "سلامي أترك لكم، سلامي أعطيكم.. لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع" (يو14: 27)،
 وقال "أي بيت دخلتموه، فقولوا سلام لأهل هذا البيت" (لو10: 6). وذكر السلام كأحد ثمار الروح في القلب.

فقيل "ثمر الروح: محبة فرح سلام" (غل5: 22). وفى مقدمة عظة السيد المسيح على الجبل "طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون" (مت5: 9).
كما ورد في الإنجيل أيضًا "أطلب إليكم.. أن تسلكوا كما يليق بالدعوة التي دعيتم لها، بكل تواضع القلب والوداعة وطول الأناة، محتملين بعضكم بعضًا بالمحبة، مسرعين إلى حفظ وحدانية الروح برباط السلام. ولكي تكونوا جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا" (أف4: 1-4).

ودعا السيد المسيح إلى السلام، حتى مع الأعداء والمقاومين، فقال "لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن، فحول له الآخر أيضًا. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا. ومن سخرك ميلًا، فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه" (مت5: 39-42).

بل قال أكثر من هذا "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.. لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم.. وإن سلمتم على أخوتكم فقط، فأن فضل تصنعون" (مت5: 44-47).

ولست مستطيعًا أن أذكر كل ما ورد في الإنجيل عن رسالة السلام في تعليم السيد المسيح، إنما اكتفى بهذا الآن، وعلى أساسه نفهم الآيات التي هي موضع السؤال:.
وكمقدمة ينبغي أن أقول إن الإنجيل يحوي الكثير من الرمز، ومن المجاز. ومن الاستعارات والكنايات، من الأساليب الأدبية المعروفة.
جئت لألقى نارًا:

وهى قول السيد المسيح "جئت لألقى نارًا على الأرض. فماذا أريد لو اضطرمت" (لو12: 49).

1- إن النار ليست في ذاتها شرًا. وإلا ما كان الله قد خلقها. وليست بصدد الحديث عن منافع النار، ولا عما قيل عنها من كلام طيب في الأدب العربي. وإنما أقول هنا إن النار لها معان رمزية كثيرة في الكتاب المقدس:
2- فالنار ترمز إلى عمل الروح القدس في قلب الإنسان.

وقد قال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح "هو يعمدكم بالروح القدس ونار" (لو3: 16).
وقد حل الروح القدس على تلاميذ المسيح على هيئة ألسنة كأنها من نار. (أع2: 3).
وكان هذا إشارة إلى أن روح الله ألهبهم بالغيرة المقدسة للخدمة. وهذه الغيرة يشار إليها في الكتاب المقدس بالنار.

وهى النار التي أعطت قوة لتطهير الأرض من الوثنية وعبادة الأصنام. وهذه النار هي مصدر الحرارة الروحية. وقد طلب منا في الإنجيل أن نكون "حارين في الروح" (رو12: 11). وقيل أيضًا "لا تطفئوا الروح" (1تس5: 129).

3- والنار ترمز أيضًا في الكتاب إلى المحبة:
وقيل في ذلك "مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة" (نش 8: 7). وقيل أيضًا "لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 14).

4- والنار قد ترمز أيضًا إلى كلمة الله:
كما قيل في الكتاب "أليست كلمتي هذه كنار، يقول الرب" (ار23: 29). وقد قال ارمياء النبي عن كلام الرب إليه "فكان في قلبي كنار محروقة" (أر20: 9). لذلك لم يستطع أن يصمت. على الرغم من الإيذاء الذي أصابه من اليهود حينما أنذرهم بالكلمة.

5- والنار في الكتاب ترمز أحيانًا إلى التطهير:
كما قيل عن إشعياء النبي إن واحدًا من الملائكة طهر شفتيه بجمرة من النار. (أش 6: 6, 7).

وإن كانت النار تحرق القش، إلا أنها تنقي الذهب من الأدران، وتقوى الطوب الطين وتجعله صلبًا. وكانت تستخدم في العلاج الطبي (بالكي).

فالذي كان يقصده السيد المسيح: إنني سألقى النار المقدسة في القلوب. فتطهرها، وتشعلها بالغيرة المقدسة لبناء ملكوت الله، على الأرض، لذلك قال: "ماذا أريد لو اضطرمت".

هذه النار قابلتها نار أخري من أعداء الإيمان تحاول إبادته. وهكذا اشتعلت الأرض نارًا، كانت نتيجتها إبادة الوثنية، بعد اضطهادات تحملها المسيحيون.
هناك إذن نار اشتعلت في قلوب المؤمنين، ونار أخرى اشتعلت من حولهم. وكانت الأولى من الله، والثانية من أعدائه.

والسيد المسيح نفسه تعرض لهذه النار المعادية، لذلك قال بعد هذه الآية مباشرة، يشير إلى آلامه المستقبلية، "وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟" (إنجيل لوقا 12: 50). وبنفس الأسلوب تحدث عن صبغة آلامه في (مت20: 22؛ مر10: 38).

بقي أن نتحدث عن النقطة التالية:
ما جئت لألقى سلامًا بل سيفًا:

وهى قول السيد المسيح بعد الإشارة إلى آلامه مباشرة. "أتظنون أنى جئت لألقي سلامًا على الأرض؟ كلا، أقول لكم بل انقسامًا" (لو12: 51).
إنه جاء ينشر عبادة الله في العالم كله، بكل وثنيته، ولذلك قال لتلاميذه "اذهبوا إلى العالم أجمع. واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مر16: 15).
تضاف إلى هذا: المبادئ الروحية الجديدة التي جاء بها المسيح. وهي تختلف عن سلوكيات وطقوس العبادات القديمة.

وكان أول من انقسم على المسيح، ثم على تلاميذه: اليهود وقادتهم. ليس بسبب المسيح، إنما بسبب تمسك اليهود بملك أرضي، وبسبب فهمهم الحرفي للكتاب. لدرجة أنهم تآمروا عليه ليقتلوه، لأنه شفى مريضًا في سبت (مت 12: 49).

وتضايق منه اليهود، لأنه كان يبشر الأمم الأخرى بالإيمان. وهو يردون أن يكونوا وحدهم شعب الله المختار. لذلك لما قال بولس الرسول أن السيد المسيح أرسله لهداية الأمم، صرخ اليهود طالبين قتله (أع22: 21, 22). بل أن القديس بولس لما تحدث عن القيامة، حدث انشقاق وانقسام بين طائفتين من اليهود هما الفريسيون والصدوقيون، لأن الصدوقيين ما كانوا يؤمنون بالقيامة ولا بالروح (أع23: 6, 9).

وانقسم اليهود على المسيح، لأنهم كانوا يريدون ملكًا أرضيًا ينقذهم من حكم الرومان. أما هو فقال لهم "مملكتي ليست من هذا العالم (يو18: 36). فلم يعجبهم حديثه عن ملكوت الله، ولا قوله "أعطوا ما لقيصر لقيصر.." (مت22: 21).
وهكذا قام ضد المسيح كهنة اليهود وشيوخهم والكتبة والفريسيون والصدوقيون.

كان يمكن للمسيح أن يمنع هذا الانقسام، بأن يجامل اليهود في عقيدتهم عن الشعب المختار، ورفضهم لإيمان الأمم الأخرى. ورغبتهم في الملك الأرضي، وحرفيتهم في تفسير وصايا الله؟ أم كان لا بُدّ أن ينشر الحق. و لا يبالى بالانقسام؟

كذلك واجه السيد المسيح العبادات القديمة بكل تعددها وتعدد آلهتها: آلهة الرومان الكثيرة تحت قيادة جوبتر Jupiter، والآلهة اليونانية الكثيرة تحت قيادة زيوس Zeus، والآلهة المصرية الكثيرة تحت قيادة رع Ra وأمون Amun، وباقي العبادات وكذلك الفلسفات الوثنية المتعددة. وكان لا بُدّ من صراع بين عبادة الله والعبادات الأخرى.

أكان المسيح يترك رسالته لا ينادى بها خوفًا من الانقسام، تاركًا الوثنيين في عبادة الأصنام، لكي يحيا في سلام معهم؟! ألا يكون هذا سلامًا باطلًا؟!
أم كان لا بُدّ أن ينادى لهم بالإيمان السليم.

و لا خوف من الانقسام، لأنه ظاهرة طبيعية فطبيعي أن ينقسم الكفر على الإيمان. وطبيعي أن النور لا يتحد مع الظلام.

لم يكن الانقسام صادرًا من السيد المسيح، بل كان صادرًا من رفض الوثنية للإيمان الذي نادى به المسيح. وهكذا أنذر السيد المسيح تلاميذه، بأن انقسامًا لا بُدّ سيحدث. وأنهم في حملهم لرسالته، لا يدعوهم إلى الرفاهية، بل إلى الصدام مع الانقسام.

لذلك قال لهم "في العالم سيكون لكم ضيق" (يو16: 33) "تأتى ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله" (يو16: 2) "إن كان العالم يبغضكم، فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم" (يو15: 18-20).

لقد وقف السيف ضد المسيحية. لم يكن منها، وإنما عليها.
وعندما رفع بطرس سيفه ليدافع عن المسيح وقت القبض عليه، انتهره ومنعه قائلًا "اردد سيفك إلى غمده. لأن كل الذين يأخذون بالسيف، بالسيف يهلكون" (مت26: 52).

وكانت نتيجة السيف الذي تحمله المسيحيون، ونتيجة انقسام الوثنيين واليهود عليهم, مجموعة ضخمة من الشهداء.
ومع الصمود في الإيمان، انتشر الإيمان وبادت الوثنية. في وقت من الأوقات.

ظن تلاميذ المسيح -كيهود- إن المسيح سيملك لذلك اشتهى بعضهم أن يجلس عن يمينه وعن شماله في ملكه. فشرح لهم السيد أن حملهم لبشارته سوف لا يجلب لهم سلامًا ورفاهية، وإنما انقسامًا من أعداء الإيمان. بل سيحدث هذا حتى في مجال الأسرة في البيت الواحد: إذ قد يؤمن ابن بالله، فيثور عليه أبوه الوثني، ويجبره على العودة إلى وثنيته أو يقتله. وهكذا مع باقي أفراد الأسرة التي تنقسم بسبب الإيمان.

فهل يرفض هؤلاء الإيمان، حرصًا على عدم الانقسام؟
كلا. فالانقسام هنا ليس شرًا، وإنما ظاهرة طبيعية. وكل ديانة انتشرت على الأرض، واجهت مثل هذا الانقسام في بادئ الأمر. إلى أن استقرت الأمور.

هل يفطن المؤمن العادي؟
وهى عبارة "هل المؤمن العادي يفطن لأول وهلة إلى المعنى الحقيقي لقول السيد المسيح؟"


تكلم المسيح عن الانقسام في مجال نشر الإيمان. أما في الحياة العادية، فإنه دعا إلى الحب بكل أعماقه. وورد في الإنجيل إن "الله محبة" (1يو4: . كما قيل فيه أيضًا "لتصر كل أموركم في محبة" (1كو16: 14).

أجيب أنه من أجل هذا، وجد في كل دين وعاظ ومعلمون ومفسرون، وكتب للتفسير.

كما أن علم التفسير يدرس في كل الكليات الدينية بشتى مذاهبها. فمن يريد عمقًا في فهم آية، أمامه الكتب، أو سؤال المتخصصين.
وختامًا أشكركم كثيرًا. لأنكم أتحتم لي هذه الفرصة الحديث معكم ومع قرائكم الكرام. دامت محبتكم.
د. أمير فهمى زخارى المنيا