القمص يوحنا نصيف
أول خطوة إلى عمل الصلاح أن تؤمِن بالله وعلى أنّ ما قاله في الكتاب المقدّس هو الحقّ؛ أي أنْ تبتُر كلّ علاقة بنزواتك وشهواتك وما هي توحي إليك. ففكرُ الإنسان كثيرًا ما أتى من أفعاله ولا سيّما تلك التي يكرّر. فإن مارستَ الكذب طويلاً وظننتَ أنّه نجّاك، تميل إلى الاعتقاد أنّ الكذب خير وشطارة، وكذلك إن مارست الاحتيال والسرقة فتَعمَى عن الحقيقة الإلهيّة.
خطاياك تصير مصدرًا لفكرك. ولكون الإنسان يميل إلى الشرّ وأن يُحَوِّل الشرّ إلى فِكر، تَكَلَّم الله ليستأصِل التفكير الخاطئ من قلوبنا. الكلمة الإلهية قائمة لأنّنا غير قادرين بعقلنا وحده على الموقف الصائب، أو لأنّ العقل وحدَه يَزِلّ لأنّ الشرّ يكون قد شوّهه.
من أجل ذلك كانت الكلمة المَقود، وإليها نحتكِم ومنها نأتي. عندئذ نصير في الحقِّ أو نصيرُ الحقَّ. ولكن عليك أن تألف الكلمة، ألاّ تنقطع عنها إذ سرعان ما تنتصب كلماتك أنت في عقلك ويجيء تصرّفك من هذا. لا كلمتك أنت ولكن كلمة الكتاب التي تعرف الصالح لك أكثر مما تعرفه أنت. وإذا جعلتَ أُلفةً بينك وبين الكلمة وأقامت فيك فارتاحت نفسك إليها، تلجأ إليها وتجعلها على لسانك وفي أذنيك. فإذا جاءك الشرير ليجرِّبك تَصُدُّه بما صار فيك حقًّا، وتَقَوْلَبَتْ نفسُكَ به، وتكون هي الدِّرع والسيف والخوذة والسلاح الكامل.
لقد انتبه صاحب المزامير إلى هذا في المزمور الـ 118، المُرَقَّم في الطبعات المتداولة 119، فحدَّثنا عن محبتنا للوصية. قبل نضجنا الروحي، عندما كُنَّا نتصرَّف كأولاد في الحياة المسيحية، نكون كأولاد المدرسة. نحسّ أنّ الله مثل معلِّم الصفّ، يعطي الأوامر، وتكون لذّتنا بمخالفة الأوامر.
الإنسان لأوّل وهلة يجعل عداوةً بينه وبين الوصية، وقد يرى أنّها تُقلِق حرّيته. إنّه هو إلهٌ لنفسه. يريد أن تأتي قراراته منه لا من سُلطةٍ؛ بشريّة كانت أم إلهيّة. ولكن يأتي يوم ينضج التلميذ فيه ويفهم أنّ في مصلحته أن يطيع، وأنّ المُعلِّم هو الذي يقرِّر المعارف التي يجب أن يُلَقِّنها لتلميذه.
الثقة بالله -وهذا هو الإيمان تحديدًا- تُوحِي إلينا ليس فقط أن نقتنع بالوصيّة، ولكن أن نحبَّها، ليقيننا بأنّ النفسَ تَصِحُّ بها وتتجمَّل، وأن ما عدا الوصية إغراء. ولذلك قال داود في هذا المزمور العظيم: "أخفيت كلامك في قلبي لكي لا أخطئ إليك". ليس فقط قرأته مرّة أو مرّات، ولكنّي أكلته أكلاً. استدخال الكلمة الإلهية إلى ثنايا القلب حتى تُطرَد منه الخطيئة لو حاوَلَت أن تتسلّل.
ويتحدَّث النبي المرنِّم عن الحُبِّ الذي نَقتَبِلُ فيه الكلمة فيقول: "اشتاقت نفسي إلى اشتهاء أحكامك". قابِلْ بين هذا القول وما نفعله عادةً. نحن نشتاق إلى الخطايا. داود يشتاق إلى وصايا الله اشتياقًا.
ومن بعد هذا التَّوق الودّ. وهنا يقول: "رفعت يدي إلى وصاياك التي وددتُ". ينتقل بهذا الودّ إلى العمل حيث يقول: "أنّه وقتٌ يُعمَل فيه للرب وقد نقضوا شريعتك. لأجل هذا أحببتُ وصاياك أفضل من الذهب والجوهر". كَلِمَتُك سلاحٌ أحارب به الأشرار. ولن يكون في يدي سلاح ضدّهم وقوّة كافية لمحاربتهم إلاّ إذا أحببتُ وصاياك فجَذَبَتْني وحَرَّكَتني لأخوض معركتك في الكون.
المطران جورج خضر
7 أيلول (سبتمبر) 1997م
+ + +
* الصور في يناير عام 1996م، مع المطران جورج في منزل أختي بالقاهرة، وفي دير القدّيس سمعان الخرّاز بالمقطّم، مع الدكتور جوزيف موريس فلتس.