القمص يوحنا نصيف
في حديث السيّد المسيح مع آبائنا الرسُل، وهو ينبّههم إلى خطورة فِكر التعالي، وشهوة المراكز الأولى، قال لهم انظروا إلى رؤساء الأمم كيف يستخدمون سُلطتَهم في السيادة على الشعب.. أمّا أنتم "فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيمًا، يَكُونُ لَكُمْ خَادِمًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلاً، يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا. لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (مر10: 43-45).. وهنا يعلّمنا السيّد المسيح كيف نستخدم السُّلطة التي يعطينا الله إيّاها في خدمة الآخرين بكلّ اتضاع.
أيضًا القدّيس يوحنا المعمدان عندما نَصَحَ الجنود، حذّرهم من إساءة استخدام سُلطتهم، بقوله "لاَ تَظْلِمُوا أَحَدًا، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَاكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ" (لو3: 14)، أي لا تستخدموا سلطانكم في البطش بالناس أو سلب حقوقهم، ولا تُطلِقوا تُهَمًا باطلة أو كاذبة على أحد.. واكتفوا برواتبكم، فلا تطمعوا مادّيًّا مُستغلّين سُلطتكم.
أمّا القدّيس بولس الرسول فهو نموذج رائع للإنسان الذي يفهم معنى السُّلطة، ويستخدمها بكلّ حُبّ وحكمة واتضاع.. فهو مثلاً مكث في أفسس ثلاث سنين يُنذِر بدموع كلّ واحد، مُناديًا بالتوبة والإيمان، بكلّ تواضع ودموع كثيرة.. باذلاً نفسه إلى النهاية دون النظر إلى كرامته أو راحته، واضعًا في قلبه فقط إتمام الخدمة التي استلمها من الرب يسوع بكلّ فرح.. بل أنّه لم يستخدم سلطته لأجل أيّة مكاسب مادّيّة، ولكنّه كان يعمل ويصرِف على نفسه وعلى الذين معه.. (أع20: 18-38).
وفي حديثه مع أهل كورنثوس، وهو يوبّخهم بحبٍّ أبويّ، يؤكِّد لهم أنّ "سُلْطَانِنَا الَّذِي أَعْطَانَا إِيَّاهُ الرَّبُّ لِبُنْيَانِكُمْ لاَ لِهَدْمِكُمْ" (2كو10: 8)، فهو يفهم جيِّدًا أنّ السلطان الذي وضعه الله في الكنيسة في سرّ الكهنوت، هو لبنيان كلّ عضو في المسيح.
والقدّيس بطرس الرسول، يوضِّح لنا ارتباط السلطان الكهنوتي بالرعاية الأمينة المتواضعة، كما يكشف كيف أنّ هذا السُّلطان تصحبه التزامات هامّة، فيقول بالروح: "ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ.. لاَ بالقهر بَلْ بِالاخْتِيَارِ، وَلاَ لِرِبْحٍ قَبِيحٍ بَلْ بِنَشَاطٍ، وَلاَ كَمَنْ يَسُودُ عَلَى الأَنْصِبَةِ، بَلْ صَائِرِينَ أَمْثِلَةً لِلرَّعِيَّةِ." (1بط5: 2-3).. فالسيادة هي لله، والرعاة مجرّد وكلاء يجب أن يسهروا بكلّ اتضاع وأمانة على رعيّتهم، فيصيروا نماذجَ حيّةً يشتاق الكثيرون للتمثُّل بها.
ونرى أيضًا القديس بطرس يمجّد القدّيس بولس، ويمدحه، ويَصِفَه بالأخ الحبيب الحكيم (2بط3: 15)، على الرغم من اختلاف مجالات الخدمة وأسلوب الرعاية بينهما.. فهو يستخدم سلطانه التعليمي من أجل تدعيم المحبّة ووحدانيّة القلب في الكنيسة، بمدح القدّيس بولس.
نَذكُر أيضًا نقطة هامّة لكي نُحسِن استخدام السُّلطة، وهي أن نقوم بتداولها كلّما أمكن.. أو على الأقل نتجنّب الاستئثار بها، أو تركيزها في يد شخص واحد أو مجموعة قليلة.. ونرى في الكنيسة الأولى مثالاً جميلاً لهذا، إذ حدث في مجمع أورشليم أنّ آباءنا الرسل أعطوا الفرصة لمشاركة كلّ الشعب في المجمع.. ونقرأ في نهاية مناقشاتهم أنّ الرسل والقسوس وكلّ الكنيسة قد اختاروا رجلين لتوصيل قرارات المجمع مع بولس وبرنابا، وعند كتابة قرار المَجمَع صَدّروه بكلمة: الرسل والقسوس والإخوة (أي كلّ المؤمنين بالمسيح) يهدون سلامًا... (أع15: 22-23)، فلم يوجَد احتكارٌ للسلطة من جهة آبائنا الرسل الأطهار..!
أخيرًا، لكي نُحسِن استخدام السُّلطة بوجه عام، نحتاج أن نجاهد باستمرار لكي ننكر ذواتنا.. لأنّ إعلاء الذّات وطلب الشُهرة والمنافسة والكرامة الأرضيّة، أو المكاسب المادّية، هي دوافع تقود للأسف لإساءة استخدام السُّلطة.. أمّا الذي يبتغي تمجيد الله في كلّ أعماله، فيمنحه الربُّ حكمةً ونجاحًا..!
بركة آبائنا الرسل الأطهار تكون معنا جميعًا،
وكلّ عام وأنتم في ملء النعمة والسلام،،