وجيه وهبة
عقب الأحكام الهمجية بالغة القسوة على المتهمين فى حادثة «دنشواى» الشهيرة (١٩٠٦)، تعرض المدعى العام ـ وكان فى تلك الآونة يُختار من بين أقدم المحامين ـ «ابراهيم الهلباوي»، تعرض للهجوم والعقاب المجتمعى، بالنبذ من الجميع،وذلك لدوره «المشين» كممثل للاتهام، حتى أنه وُصم بوصفه «جلاد دنشواى»، كما ورد فى القصيدة الشهيرة لشاعر النيل «حافظ ابراهيم»، والتى يختتمها بقوله:

أيها المدعى العمومى مهلًا

بعض هذا فقد بلغتَ المرادا

قد ضمنَّا لك القضاء بمصر

وضمنَّا لنجلك الإسعادا

..........

أنتِ أنبتِّ ذلك النبت يا «مصــر»

فأضحى عليكِ شوكًا قتادا

أنت أنبتِّ ناعقًا قام بالأمـس

فأدمى القلوب والأكبادا

................

إيهِ يا مِدرة القضاء ويا مَن سادَ

فى غفلة الزمان وشادا

أنتَ جلَّادنــــــا فلا تنسَ أنَّا

قد لبسنا على يدَيك الحدادا

النقيب الجلاد

■ بعد نحو ست سنوات، من وقائع «دنشواى»، وفى العام فى ١٩١٢ أُنشأت نقابة المحامين وأُجريت أول انتخابات لاختيار أول «نقيب للمحامين». أسفرت الانتخابات عن فوز «جلاد دنشواى»؛ «ابراهيم الهلباوى» بالمنصب، بغالبية تقترب من إجماع الأصوات.!!.

كان المقياس إذن، هو أن «أهل المهنة أدرى بشعابها».. وقد اختاروا«الجلاد» الذى هو أعلم أهل المهنة بشعابها وإنفاقها ودهاليزها.. بعيدًا عن السياسة. ولأن الأمور ليست دائمًا أبيض أو أسود، فلنقرأ بعضا مما ذكره، «صليب باشا سامى» عن «الهلباوى» فى كتابه «ذكريات» الصادر فى خمسينيات القرن الماضى:

«كان من فضل الله عز وجل على المحاماة والمحامين أنْ مَدَّ فى حياة هذا الأستاذ الكبير، فعاصر ثلاثة عهود للمحاماة، كان فيها جميعًا موضع الإجلال والتقدير، من زملائه وأبنائه المحامين ومن القضاة أجمعين.... وكان عبقريًّا فى ذكائه وسرعة خاطره، قويًّا فى حجته، سليمًا فى منطقه، فصيحًا فى لسانه،.... وكانت تتخلَّل مرافعاته مداعبات طريفة، تُخفِّف من حدة خصومه. وتُهوِّن من مشقة القاضى، وتُضفى المرح على نفوس السامعين... جَمَّ الأدب أمام القاضى.. عفَّ اللسان.. وكان خيِّرًا قانعًا فى تقدير أتعابه، رفيقًا بموكليه».

■ فى عز شعبية حزب «الوفد» الكاسحة، فى سنة ١٩٢٥، قرر الوفديون دخول انتخابات اختيار نقيب للمحامين،على أساس الحزبية. ولكنهم فشلوا فى الانتخابات، فقد فاز بالمنصب «أحمد لطفى» (الحزب الوطنى) وبالوكالة «صليب سامى». وفشلوا أيضًا فى العام التالى وانتُخب، «حافظ رمضان» (الحزب الوطنى). يفسر «صليب سامى» ذلك ـ فى كتابه السابق ذكره ـ بقوله: «إن أغلبية المحامين فى ذلك الزمن كانت تُفرِّق بين الانتخابات المهنية ومقتضيات السياسة الحزبية».

■ و«صليب سامى» على كثرة ما تولى من وزارات (من الخارجية إلى التموين، مرورًا بالتجارة والصناعة والحربية والبحرية) إلا أن اعتزازه بمهنة المحاماة وآدابها كان ملحوظًا، وقد خصها بفصل كبير من كتابه يوصى فيه زملاءه المحامين بعدة وصايا، منها: «لا تعلن عن نفسك إعلان التجار عن سلعهم... لأن المحاماة ليست تجارة.. أثِّثْ مكتبك ببساطة، ولا تُحاوِل أن تجعل منه مظهرًا للفت الأنظار.. فليس مكتب المحامى معهدًا للتجميل.. واجعل لافتتك مقصورة على اسمك ومهنتك، دون الإشارة إلى جميع جهات القضاء التى تمارس عملك أمامها.. ودع الصحف تنشر وحدها الهامَّ من القضايا، ولا تُوعِز لموكليك بشكرك فى الصحف...».

نزاهة لا تُصدق
ويعرض «صليب سامى» فى كتابه لبعض من النماذج المضيئة فى تاريخ مهنة المحاماة والقضاء، فيقول عن «عبدالعزيز باشا فهمى»:

«كان المرحوم عبد العزيز الرجل الذى اتخذته مِثَالًا، والمحامى الذى اخترته أستاذًا..... ومن لغو الكلام التحدث عن كفايته، محاميًا كان أو قاضيًا أو وزيرًا للعدل...». وعن قدر نزاهته يحكى لنا «صليب سامى» عن قضية سيدة موسرة تزوجت من قائد تركى، زوَّر عليها عقدًا تَبِيعه بمقتضاه حوالى ألف فدان، آلت إليها عن زوجها السابق. وافق «عبدالعزيز فهمى» على الانضمام إلى فريق المحامين عن هذه السيدة، (المكون من صليب سامى وأحمد عبداللطيف)، وذلك بعد أكثر من أسبوع من المناقشات، وتأكده بعدها تمامًا من تزوير العقد.

يقول «صليب سامى»: تولَّى عبدالعزيز مناقشة المتهم، أدلى الأخير بعبارة تُؤيِّد تزوير العقد بصورة قاطعة؛ حينئذٍ وجم محاموه وشرع رئيس النيابة فى ختم التحقيق اكتفاء بإقرار المتهم، وإذا بعبدالعزيز يقفز من مقعده صارخًا: «لا لا يا حضرة الرئيس! انتظر انتظر، أرجو أن تُثبِت على لسانى فى محضرك، أنى أخشى أن يكون المتهم لم يفهم مُؤدَّى سؤالى؛ ولذلك أجاب عليه بالصورة التى أُثْبِتَتْ فى التحقيق، واسمح لى أن أُعِيدَ السؤال على المتهم فى صورة أخرى؛ ليجيب عليه بعد أن يفهم مُؤدَّاه على صحته».

ولما أُعِيدَ سؤال المتهم أجاب عليه إجابة أخرى تنفى التهمة عنه؛ وبذلك أنقذ عبدالعزيز خصمه، وأعاد البشر على وجوه المحامين عنه، وكان ذلك من عبدالعزيز فى سبيل إراحة الضمير، وتحقيق العدالة على الوجه الصحيح، ولا شَكَّ أن هذا منتهى ما تَصِل إليه أمانة الإنسان».

«وكان عبد العزيز فى مركز يُسمَح له بفرض أتعابه على موكليه، غير مراجع فى تقديرها، ولكنه كان يعلم أن القناعة جزء من الأمانة، وأن فى الإفراط فى تقدير أتعابه خيانة، فضلًا عن أن فى قبول الموكل الأتعاب المُبالَغ فيها نوعًا من الإكراه يَشُوب الرضاء الصحيح..».

ويذكر «صليب» كيف أن هذا المحامى الكبير، أثناء ثورة ١٩١٩، قد فضل أن يغلق مكتبه ويتفرغ للقضية القومية، ويُسافر عضوًا فى الوفد الرسمى للمطالبة بحقوق مصر، ورد آلاف الجنيهات إلى موكليه. وأن أحد الأطباء أبى أن يَسترِدَّ الأتعاب، لأن الجهود التى بَذَلَها الأستاذ فى قضيته تستحق أضعاف ما قبضه من الأتعاب.. ويقول «صليب سامى»: «وحاولت أن أؤيد الدكتور فى قوله؛ فغضب عبدالعزيز وانصرفنا قبل أن يُغلِظ لى القول».

■ بفضل رجال من أمثال عبدالعزيز فهمى، كان لمهنة المحاماة وزنها واعتبارها الاجتماعى، ومن بين ممارسيها جاء معظم الزعماء السياسيين ورؤساء الأحزاب ورؤساء الوزراء... فى زمن «صليب سامى».
نقلا عن المصرى اليوم