خالد منتصر
ليس هناك روائى عظيم إلا وولد من تجارب عظيمة، ثراء الحياة، وغنى الواقع، وتنوع التجارب، يمنح الروائى ألقاً متفرداً لكتاباته الروائية، لذلك لم أندهش وأنا مستمتع بقراءة رواية « ابنة الحظ» للروائية التشيلية الرائعة إيزابيل الليندى، فالتجارب التى مرت بها هذه الروائية الموهوبة التى تنسج تلك الدانتيلا الروائية بخيوط سحرية من النور والعطر، هى تجارب فى منتهى الثراء، ولابد أن تترك بصمتها على تلك الموهبة الجبارة، تجوال حول العالم فرضته مهنة الأب كسفير،
ثم مهنتها فى منظمة الأغذية والزراعة، كتاباتها الصحفية، عملها فى مجلات الأطفال منحها جسارة الخيال، وبكارة الأفكار، ذهابها إلى بيروت وهى طفلة واطلاعها على ألف ليلة وليلة بأجوائها السحرية الشرقية المختلفة عن تلك القارة الجنوبية التى تقبع فى طرف العالم، فقدها لابنتها ذات الثمانية وعشرين ربيعاً بمرض البورفيريا، نفيها إلى فنزويلا بعد الانقلاب على عمها سلفادور الليندى، هذه الحياة جعلتها روائية ذات طعم خاص، باهرة السرد، أحداث روايتها لا فقر فيها ولا جدب، لديها فائض وكرم وسخاء ربانى فى الأحداث لا تستطيع أمامه إلا اللهاث من فرط فورة الإيقاع وسرعته، نحن أمام رواية تجوب أطراف العالم من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب برشاقة راقصة باليه، وذكاء لاعب شطرنج، وانضباط تاجر ذهب أو كيميائى معمل، من ميناء بالباريسو فى شيلى، إلى إنجلترا،
ومن الصين، إلى سان فرانسيسكو، فى كل بقعة تحكى إيزابيل وكأنها شجرة سنديان قوية الجذور، نمت فيها وترعرعت، رواية يتجاور فيها فحيح الجنس وزفرة الموت، ويتحاور فيها جشع السلطة وجوع الرغبة، البداية مع إلزا سوميرز التى تلخصها الكاتبة فى قدرتين خارقتين، الشم والذاكرة، الصدمة الأولى أنها لا تعرف هل هى ابنة زنا تبنتها الأسرة، أم هى ابنة بحار تاهت منه على الشاطئ؟!، تتداخل الدوائر وتتسع، دائرة الأسرة التى تبنتها، القبطان جون المنطلق متعدد العلاقات، شقيقه جيرمى موظف شركة الميناء الغاضب دوماً، والشقيقة روز التى اعتبرت إلزا ابنتها، قصص الحب وأقطابها الجاذبة والنافرة، روز التى يتقرب إليها المبشر البروتستانتى جاكوب، وترفضه لتقع فى هوى مغنى التينور النمساوى، إلزا التى تحاول روز أن تقرب إليها الضابط الشاب ليتزوجها، فيقع الضابط فى هوى روز!،
وتقع إلزا فى هوى خواكين إنديتا الموظف الثورى الفقير الحالم، تنمو العلاقة ما بين إلزا وخواكين، تثمر جنيناً ينبض فى رحمها، نفس نبض حلم ذهب كاليفورنيا الذى ذهب بعقل خواكين وكثير من أبناء شيلى والمكسيك بل العالم كله، كاليفورنيا التى انتزعها الأمريكان من أحضان المكسيك، وبدأت أخبار الذهب الذى يملأ مناجم وشوارع كاليفورنيا يصنع هيستيريا لدى الجميع بمن فيهم القبطان جون، فيسعى الجميع لأرض الأحلام، وعلى رأسهم خواكين الذى يحلم بالثراء وبإنقاذ أمه من براثن الفقر وسوء السمعة، يختفى وتختفى معه ابتسامة إلزا، تقرر الهرب، يساعدها الطاهى الصينى تاو تشين الذى كان مساعداً للقبطان جون على سفينته، وهو شخصية آسرة، لا يمكن أن تنساها، وأنا أعتبرها من أهم وأغنى الشخصيات أبعاداً وأكثرها عذوبة فى أدب أمريكا اللاتينية، وقد جذبتنى تلك الشخصية أكثر من إلزا وروز ،
فهو صينى هبط إلى شيلى، ثم قام بتهريب إلزا إلى سان فرانسيسكو، حيث رحلة البحث عن خواكين، ساعد إلزا فى الهرب المربية فيريسيا، وهى من السكان الأصليين لشيلى، هنا تختلط رائحة الأساطير لهؤلاء السكان الأصليين، مع أساطير الصين وطبها الذى يعتمد على مفاهيم الطاقة والروحانيات والوخز بالإبر، والايمان بأن الروح تتجول حولك، ولابد أن تعرف وتحدد مكان موتك لتزورك الروح وتلتقيا معاً، تنجح إلزا فى الهروب، وتجهض طفلها وهى متخفية فى بطن السفينة، وتتخفى فى ثياب رجل، وتبدأ رحلة دامية، تشاهد فيها بانوراما الجشع والقسوة والدم والنشوة، الصراع على الذهب الذى أفقدهم الروح، أصبح لأبناء المناجم قانونهم الخاص، وقضاؤهم الخارج عن أى قاعدة، رءوس تقطع فى الحال دون محاكمة حتى يتم الاحتفاظ بالتوازن وينعدل الناموس، الواعظ والكتاب المقدس لهما احتياج، والماخور وصالة القمار وكتب الإيروتيكا لها نفس الاحتياج، الرواية تمجد الإنسانية، ولا تسقط فى فخ الإدانات الأخلاقية الجاهزة، فمن تنقذ إلزا من الموت على السفينة وترعاها عاهرة!، والست كاسرة العظام الهولندية التى تكسب قوتها من عرق الغانيات فى كاليفورنيا، هى التى تنقذ الفقراء وضحايا الكوليرا والدوسنتاريا، والمارد بابالو حارس الغانيات لا يستطيع تحمل رؤية جراحة بتر أصابع، بورتريه ساحر وطازج يرسمه المخلب والناب، وتلونه الدمعة والآهة والأنين،
مشاهد وكادرات ترسمها إيزابيل الليندى بخيال جسور ومحلق، ترسم لنا مصارعة ثور مع دب فى الساحة حيث يجتمع الباحثون عن حلم الذهب، ننظر معها من ثقب الباب على المرأة الصينية التى اخترعت تجارة التلصص من الثقب على جسدها العارى لقاء الذهب!، تاو تشين الذى يلملم المحتضرات من فتيات الليل لينقذهم من الموت فى الحى الصيني!، كيف تحول خواكين الثورى إلى خواكين قاطع الطريق فى أحراش كاليفورنيا، وكيف تحول جاكوب المبشر البروتستانتى إلى صحفى كاذب يخترع لقاءات وهمية مع خواكين، ويصنع أسطورته المتخيلة ويصدقه الناس!، فى أثناء رحلة البحث تهزم إلزا الخوف على الرغم من هذا الصراع الدامى والجو المحموم،
وتسمح لقلبها أن يعانق قلب تاو تشين الحكيم الصينى الأرمل الجميل الذى ينتظر طيف زوجته الراحلة، لكن هل ستعثر إلزا على خواكين؟، وهل ستظل على حبها لقاطع طريق؟، إجابة إيزابيل الليندى فى آخر سطر فى الرواية، هى إجابة بمنزلة شفرة دى إن إيه التى تحمل سر الحياة كلها.
نقلا عن الاهرام